يناير 25 2010
الخطاب القومي في الشعر المعاصر…………. د. صلاح فضل
الخطاب القومي في الشعر المعاصر
د. صلاح فضل
قد يهدف تحليل الخطاب الشعري إلي الكشف عن إستراتيجية النص في توظيفه لمختلف الإشارات اللغوية لتشكيل منظومة تقنية عالية الكفاءة في توصيل البيانات الجمالية علي وجه التحديد من هنا فهو يبتعد عن التحليل المضموني الذي كان سائداً في النقد القديم والذي كان يرتكز علي النقاط الموضوع ، وإلقاء الضوء علي جوانبه المختلفة بغض النظر عن كيفية تقديمها المتعينة في النص .
أما تحليل الخطاب فهو ينطلق من الخواص النوعية له ويأخذ في اعتباره ارتباط النجاعة الوظيفية للنوع بمستوي إنجازه الخاص ، فتصبح درجة الشعرية هي الحاسمة في قياس كفاءة النص في حالتنا في تحقيق غايته التواصيلة ولا يتحول الموضوع مهما كانت نبالته إلي مجرد ذريعة تبرر قولاً متهافتاً في مكوناته ضعيفاً في فعاليته ، بل تفضح المسافة الفاصلة بين القصد والمنجز ما يقع من قصور في الأداء أو عجز عن الوفاء بمتطلبات متحركة تتسم بطابعها الديناميكي الخلاق لأنها تتجاوز دائماً أفق توقع المتلقي وتدهشه بكشوفها المتميزة .
وإذا كانت اللغة – وهي مادة الخطاب عموماً – أقوي مظهر للملكية الجماعية الشائعة ، كما كان يقول جاكويسون ، فإنها هي التي تحفظ كيان الأمة – وتحقق قوميتها وتكاد ترسم حدودها إنها قد تصبح الوطن الذي نسكنه ، والروح الجماعي الذي نحيا به ، لكننا سرعان ما نجني عليه بالاستهلاك والإرهاق والتجميد والتنميط سرعان ما نحيل اللغة إلي قوالب محفوظة منصلبة وعبارات مكررة لا ينقذها من أيدينا ويرد لها عافيتها وشبابها ونضارتها البكر سوي الشعراء ، هم الذين يعيدون تخليقها وشحنها بالطاقة المتجددة ، هم الذين ينفثون فيها وهج الحج ويحققون بها تاريخ الوجود الإنساني الخلاق .
ولدق كان الشعر العربي في مختلف عصوره المرآة الصافية والمحدبة لخطاب الجماعة في السلم والحرب ، عندما كان يقوم بوظائف عديدة الإعلامية التواصية والفكرية التخيلية والوجدانية الحميمة ، فشيد الشعراء صرح الديوان العربي بأكمله ، وعمروا أروقته وصنعوا قيمه ومثلهوذاكرته ، وصبوا فيه خلاصة قدراتهم الإبداعية في التشكيل واللحن والتصوير والنحت والرقص والنقش ، كان الشعر اختزالاً مكثفاً للفن العربي وتعويضاً مسعفاً عنه ، ثم لم يلبث في المرحلة الحديثة أن تنازل تدريجياً عن إعلاميته وخطابته ، محاولاً أن يخلص إلي جوهر الفن في أصل وجوده وكينونته .
ولعل أهم ما يترتب علي هذا الأنحسار النوعي في وظائف الشعر أن تتحرراللغة نسبياً من طغيان الوظيفة التخيلية عليها في مجالات الحياة العملية ، وتتعدل منظومات القيم كي توازن بين متطلبات الواقع والخيال ، فقد كنا نفرح ونبتهج عندما يحدثونا عن عبقرية العربية باعتبارها لغة شاعرة ، ولا ندرك ما في ذلك من خطورة عل يوعينا بالحياة ومحددات الواقع ، حتي يأتي علينا حين من الزمان يرتكب فيه الإعلام – وريث الشعر – خطيئة التلبيس بين الواقع والخيال فيسمي الهزيمة نصراً ، ويتوهم معارك مضحكة نغير فيها أسماء الوقائع إلي أضدادها ، ونصدق أكاذبينا ونطلب من العالم أن يحاربنا في ذلك فتكون هذه جناية الخلط بين أنواع الخطاب ووظائفه المختلفة ، نفرح بالطابع الشعري الغالب علي لغتنا فتصبح عقليتنا شعرية أسطورية ، تتمسك بسحر الكلمات وتستعيض بها عن العمل والفعل الحقيقي .
إن لغة الشعر- كما تثبت الدراسات التداولية الحديثة – هي التي تعتمد علي أفعال الكلام ، وهي التي تستقطب الطاقة الإنشائية للخيال البشري لكنها تفعل ذلك عن عقد ضمني بين المبدع والمتلقي مثلما يحدث عند شباك المسرح ، حينما أدفع ثمناُ بطاقة الدخول ولسان حالي يقول ” أدفع لكم ثمن استمتاعي الفني بما تقدمونه أمامي من عمل تمثيلي ، تعيدون فيه تجسيد الوقائع بشكل مخالف لما هي عليه في الحياة كي يتضمن دلالة ولذة جمالية ” .
وهكذا فإن وظيفة الشعر اليوم لا يمكن أن تنحصر في انكفاء اللغة علي ذاتها أو تأملها لمفاتنها واحتفائها بألاعيبها التقنية الجميلة ، لا تزال رؤية العالم هي مناط أهمية الشعر وخلاصة وظائفه الجمالية والحيوية بشروطها المعرفية والتخيلية الخاصة .
ولقد أسفرت بحوث التداوليين المبنية علي نظرية أفعال الكلام عن أن هناك جملة مقدرة تسبق كل قول شعري لتصنع فرضيته الأساسية يوجزها “ليفين” في إحدي عبارتين طبقاً لمدار كل قصيدة ودرجة سعتها ، وإستراتيجية خطابها :
– أتخيل أني ..
– أدعوك أن تري العالم باعتبار أنه
هذه الجملة هي التي تضمن التماسك الداخلي والانسجام الجمالي لكل ما يحفل به النص الشعري من صور تناقض الواقع الملموس وتتجاوز منطق اللغة المألوف وتستثير أعمق كوامن الذاكرة الإنسانية يصبح الشعر هكذا صورة يرسمها الفنان لنفسه وللعالم من حوله ، خطاباً يجسد فيه ذاته كما يراها وكما يجب أن نراها معه إنه خطاب الوعي وما تحته صورة الواقع كما نتخيله ونتجاوزه الامر الذي يجعلها تحفل بالتوتر الداخلي المبدع بين القدرة والإرادة والمفارقة الواضحة بين الداخل والخارج ، إنها تنشد المستحيل وهي تزعم أنها ترصد ما يثوي أمامنا في رحم الوجود .
* مرايا الخطاب القومي :
ولقد تأملت في دراسات سابقة بعض مرايا الخطاب القومي في الشعر العربي المعاصر بشكل جزئي عند السباب والبياتي وصلاح عبدالصبور ومحمود درويش وبتفصيل أدق عند أحمد عبدالمعطي حجازي ونزار قباني وأريد أن أسلط الضوء التحليلي علي عدد آخر من الشعراء . يجمعهم أنهم أبناء هذا النصف الثاني من القرن العشرين ، اكتووا بناره اللاهية في المحرقة ، الفلسطينية وانتقلوا كلهم من البؤرة الساخنة إلي الحافة المجاورة لها مباشرة ، حيث عاشوا في الأردن وكتبوا أشعرهم علي ضفته الشرقية الدافئة ، والعلاقة بين الوعي القومي بأشكاله الأيديولوجية والتخيلية والجرح الفلسطيني الغائر علاقة سببية فالاحتكاك بالآخر في وجهه الاستيطاني العنصري القبيح واكتشاف مقومات التماسك للأمة وجهان لموقف واحد تعجل فيه المحنة والصراع أسباب النضج – وربما الاحتراق – لعوامل التماسك القومي في الواقع وما فوقه ، علي أني – من الوجهة الإجراية – أريد توضيح أمرين :
أولهما : إن مفهوم الخطاب القومي كما يتجلي في الشعر لا ينحصر في الموضوع السياسي المباشر ، بل يرتبط برؤية العالم بما يشغله الهم القومي في مساحتها حضوراً وغياباً وبمدي ما تنجح فيه تقنيات التعبير الشعري وغستراتيجيات الخطاب في احتواء مستويات الوعي العربي وتفعيل الإحاطة بها عبر التواصل الجماعي النوعي حتي يصبح الخطاب الشعري قومياً بمقدار ما يشف عن روح الجماعة ويبلور من ضميرها الإنساني مستمداً نسقه من موروثها الحضاري ومنظورها المستقبلي معاً .
والثاني : أن النماذج التي أتوقف عندها ليست حصرية بمعني أن هناك عدداً آخر من شعراء هذه البؤؤرة الساخنة تصلح أعمالهم كي تقدم لنا تجليات باهرة لهذا الخطاب ذاته ، مثل سميح القاسم ، ومحمد القيسي وأحمد دحبور وغيرهم ولكن فروة الشعر وخصوبته تحول دون أستيعاب كل التيارات والتجليات الفائقة وكل عملية اختيار تتضمن انتقاء وترسخاً وتتحمل مسئولية ما تفعل دون أن يكون ذلك حكم قيمة بل هو ضرورة واقع لا مفر من تصغيره حتي تتسع له صفحات يسيرة مفتوحة علي التنامي والاستمرار فيما بعد .. وإذا كانت عوالم الشعراء تتسم بمفردها كلما صنعت خطابها المتميز ، بحيث لا يمثل أحدها غيره فإن تنوع التجارب الشعرية مع وحدة الإستراتيجية القومية هو الذي يكشف لنا عن مناورات الشعر ويبرز أساليبه ويلفتنا إلي ثراء تقنياته وتعدد نبراته الأمر الذي يضعنا في قلب الشعرية العربية وهي تصنع معجزاتها المتجددة وتمارس غوايتها لخطابنا المعاصر .
وربما كانت القرابة الأسلوبية لتيارات الشعر السابقة علي الفترة الراهنة هي التي تجعلني أوثر البداية بالشاعر الراحل عبدالرحيم عمر حيث يمكن أن نعتبره نموذجاً للصوت الغنائي الرائق ، الفائق في عذوبته وهو يقدم بخطوط منتظمة شفيفة صورة وعيه ووعي أبناء جيله في هذه العقود الأربعة الماضية بموقفهم القومي ورؤيتهم لموقعهم التاريخي ، عبر تصوره لنفسه ودعوته للآخرين اي من خلال تخيله لذاته وللعالم من حوله :
سر السحر الشعري لديه هو البساطة العفوية الأسرة ، افتح ديوانه مثلاً علي قصيدة بعنوان ” عيناك حلوتان ” لنجده يقدم فيها أمثولة كونية للمأساة القومية ، بعرض فيها مجازياً قصة الطوفان الصهيوني الذي غرق فيه أبناء هذا الجيل .
عيناك حلوتنا
وكالربيع فيهما تفاؤل حبيب
وخضرة ترعش بالحنان
ودعوة وادعة للحب والطفولة
وفيهما طفاوة اسيانة عليلة
رحيبة كأنها المدي
عميقة كأنها الزمان
وانت كل عالمي في هذه السفينة
فالآخرون واجمون ” استسلموا للموت ، للطوفان .
وكل زوج للفرار صورتان
خائفئتان ترقبان هجمة الري
وانت يا رفيقتي تغالبين الخوف
تزرعين حولك الأمان
عجل بنا يا ايها الربان
عجل بنا ، ها قمة الجبل يا أيها الربان
الخوف والمنون توأمان
هذا النفس الوادع الهادئ النضير يمزج في نبرة واحدة بين قرار اليقين الواثق المفعم بالأمل مع رعشة الاجفال الفزع من المستقبل يرواح بين تحنان من العشق وهول المأساة في اتساق عجيب يتسع ليشمل حالات متناقضة في أغوار الإنسان واقع وجوده ، ربما لم تكن خطوب الحياة القومية قد حطمت بعد هذا التفاؤل الرومانسي الوديع وهو يقترن بصحوة الحب وزهوة التطلع للغد ، لكن ما يعنينا من الوجهة التعبيرية في هذا الشعر ويحدد ملامحه كخطاب نوعي هو بساطة نسيجه وعذوبته وخلوه من تراكمات المجاز ومشاحنات الرمز ، يكفيه هذا الإطار الأمثولي الواضح في قصة الطوفان التي يسهل تلقيها وفهمها علي كل المستويات .
علي أن هذا التيار الموسيقي الذي يسري في خلايا التراكيب ويشكل إيقاعها اللافت ، وأنماط التكرار البارزة في المطلع والختام ” عيناك حلوتان ” يجعل للدلالة الشعرية الموازية غيقاعاً حلواً سرعان ما يتردد في وجدان المتلقي دون عناء . وكما يعتمد الغناء الشجي المؤثر علي الصوت المفرد والنغم المكرور والدلالة الواضحة ذات الأثر القومي علي النفس فإن هذا النموذج يمثل طريقة الإنجاز الشعري للخطاب وهو يتشكل صانعاً ذائقة القراء ومستجيباً في الآن ذاته لأفق انتظارهم ومشبعاً لحاجاتهم الجمالية .
ولقد ظل هذا الولع بالغناء والافتنان بالموسيقي ، والإنشاد للحب يمثل البؤرة التي ينصه فيها الحس القومي برؤية الذات الشعرية حيث يحافظ الشاعر علي مسافة كافية من موضوعه مؤثراً الاقتراب التصويري منه .. وهذه طبيعة الغناء ، عندما يشدو للمحبوب وهو يقصد الوطن ويهذي بعشق الجمال وهو ينفث مواجد التاريخ .
في هذه المرحلة كان عبدالرحيم عمر يكتب شعره الذي يوازي ويضاهي كبار شعراء جيله في مختلف الأقطار العربية وإن كانت شواغلهم ومصائرهم قد اختلفت بعد ذلك نقرأ له مثلاً قصيدة أخري في ديوانه الأول ” أغنيات للصمت ” بعنوان ” الرحيل ” لنفاجأ بهذا الخطاب الطريف :
صديقتي أميرتي البعيدة
من بلدتي الجديدة
ومن وراء غربتي الشريدة
أطل للشمال في ابتهال
لعلني رغم المدي البعيد
أراك يا حمامتي الأسيرة
تحدقين تنظرين في قلق
وتسألين ف يمشارف الأفق .. إلخ
من الواضح أن خطاب الصديقة الذي كان قد كتبه صلاح عبدالصبور كان يمثل لفتة حميمة في أوضاع اللغة الشعرية تنتقل بها من نجوي الذات الرومانسية إلي البوح المنطوق للحبيبة المثقفة العصرية بهموم النفس والوطن ، حينما أصبحت رفيقة الدرس في الجامعة أو النضال في صفوف الحزب ليس معني ذلك أننا نري ظلاً من المحاكاة في هذا الخطاب ، لكن معناه في تقديري أن كلا من الشاعرين كان قد عثر علي النبرة الملائمة لخطابه الغزلي القومي لكن ما سيحافظ عليه الشاعر الفلسطيني المولد ويختلف به عن رفيقه المصري هو إبقاؤه علي هذا النغم الغنائي المفرد دون مأساوية لاستنفذا أقصي ما يتضمنه من حلاوة تعبيرية غير ممرورة ، تصل به إلي درجة النشوة الغنائية والهذيان في مثل قوله :
كان كالطائر يهوي كل زهرة
فيغني لهواها
ويغني لشذاها
ويغني للندي والروض والنوار شعره
ثم يسرد قصته عندما رآه ” من بني الجن أمير عبقري فدعاه ياصبي ” قائلاً له:
أنا في كشف أمور القلب والغيب نبي ستراها يا بني
غضة كالزهرة الخجلي علي الغصن الطري
ستراها فتصبر يا بني ”
ولا يخفي علينا أن ضمير الأنثي يحتوي الأرض المغمة عن ناصرته الماثلة في بؤبؤ قلبه فالشاعر المغني يتحول إلي راء يتنبأ ، وهو معني بمعشوقته التي لا ينفصم فيها الخاص عن العام ولا الرمز عن المرموز إليه وهو يقدم صورة الذات دون أحباط أو مرارة وأهم ما يتمثل في هذا الخطاب الشعري العفوي هو حيويته الدافقة واتساقه المتناغم وقدرته التواصلية الفائقة عندما يغني في صوت واحد للوطن الجريح ولما في الحياة من تباريح مفعماً بالرغم من ذلك في مستقبل مشرق لا شك في بزوغه القريب .
إذا أنتقلنا بعد ذلك إلي النموذج الثاني ” عز الدين المناصرة ” وجدنا أنفسنا حيال شاعر عارم طويل النفس عميق الثقافة متجذر في قلب الأسطورة التاريخية ممتد إلي الأفق الإنساني الرحيب ، طموح إلي تشكيل شعرية متميزة يناوئ بها كبار مجادليه ، كما ألفينا أن الكثافة هي التي تلعب الدور الرئيسي في قصيدته حيث لا تعتمد علي تداعيات سهلة متوقعة ، بل تعباً بشحنتها الدلالية المتراكبة عبر عدد من التحولات والانتقالات تتعدد فيه الأصوات وتختلف المستويات المجازية ، وتلعب الرموز المصنعة دوراً بارزاً في إثراء الدلالة بسياقاتها المختلفة .
نجد شاعراً يجيد القصيدة المطولة والتوقيعة الموجزة يعرف كيف يسكب رحيق تجربته في كلا الإطارين دون تعسف أو إسرف ممتلكاً زمام الإيقاع وموظفاً لأبعاده في كل الحالين .
لكننا سرعان ما ندرك أن اللقب الذي انتزعه لنفسه حيث كتب علي غلاف أعماله الكاملة تحت اسمه ” شاعر المقاومة الفلسطينية ” كان باهظ الثمن فقد أضطره – فيما يبدو – إلي أن ينفي من شعره كل ما لا يتصل مباشرة بالتاريخ المناضل للمقاومة منذ انبثاقها إلي تفجيراتها وأحداثها وخطويها المعلقة ، ومعني هذا أن المسافة الفاصلة بين السياسة وقول الشاعر عنده ضيقة مأزومة حيث يجد القارئ نفسه محاصراً في مجري الأحداث متقلباً علي نيرانها وحيث يتقلص فضاء المتخيل الشعري خارج هذا الإطار بدرجة كبيرة تقتصر علي حالات العشق والضياع قبل احتدام لمأساة بما يجعل هذا العالم خالياً من المفاجأت الكبري والانحرافات البهيجة .
ومع ان الشاعر يمتلك حساً درامياً عالياً بالوجود وقدرة كبيرة علي صناعة الرموز ، إلا أن القالب النضالي الذي ينحصر فيه بجعل قصائده أناشيد دون بطولات عظمي يصدقها التاريخ ويجعل أشكال المفارقة مع الواقع تغلف الخطاب بدرجة خفيفة ربما غير مرئية من السخرية الشفيفة الفاصلة عن التماهي معه .
ولنتذوق طرفاً من هذا الشعر العارم في إحدي المجموعات الفائزة بعطاء الروح الشابة ” بأجس أبوعطوان يزرع أشجار العنب ” وهو رابع ديوان شعري للمناصرة نشر عام 1974 حيث يقول بضمير المتكلم المباشر :
أعشق بيت المقدس ، سور الحرم وباب الأسباط
وخصوصاً
حين تجئ الشمس علي الباب الغربي
وأعشق قافلة الأنباط
وكذلك علمني الوالد : أن الأمكنة حنين يبقي
فأحفظ يا ولدي
في قلبك بعضاً من ماء العين
تنفعك الذكري حين يحوم علي رأسك طير البين
في لحظة حزن من زمن الإحباط
نلاحظ أولاً أن البداية المباشرة في الظاهر سرعان ما تضمر بعداً تاريخياً في الزمن القديم ، إنه عشق ما قبل الميلاد حينما يتواصل مع قوافل الأنباط وهو عشق ممتد في أصلاب الأجيال يثق في توالده المتوارث من أب لابن لحفيد عشق السلالة لا الفرد .
ومع أنه مختوم بنبرة حزن لاهب تعلن وجعها من زمن الأحباط إلا أنه مزود بدمع المآقي وقد طمره القلب إنه يؤمئ للتاريخ القادم بتفاؤل مكتم انتظاراً لانتصار الحكمة والحب .
ولو طرحنا سؤالاً صريحاً عن الطابع المميز لهذا الخطاب القومي في شعر عز الدين المناصرة لوجدنا إجابة قريبة سريعة تجعله خطاب العصر بكل خطوبه وتقلباته ويتجلي ذلك فيما يلي :
(أ) استقطاب المنظور النضالي المباطن للتجربة التاريخية بكل تعاريجها الزمنية وظلالها المكانية مرحلة مرحلة ، ومنفي منفي ، من القاهرة إلي عمان وبيروت وصوفيا بودابست وبرلين دائماً بلباس الجندية .
(ب) التماهي مع حركات النضال العالمية ورموزها الأساسية مثلما هو منتظر من الشعر الأيديولوجي الملتزم والقرب في أحيان كثيرة من مستوياتهم في التعبير والترميز نركز مثلاً علي مقطع من قصيدة “الحب لونه أخضر ” التي تذكرنا برائعة
” لوركا ” : ” خضراء أريدك خضراء ” بينم اتوجه الحديث لناظم حكمت قائلة :
انكسر شوقاً لما يأتيني صوتك في
كل صباح مسحور
أسمع خطواتك فوق الدرج الحجري المكسور
طقطقة الكعب الأسود ، رجرجة الخاصرة أزيز النار
في قلبي يخضر العشب وتنهمر الأمطار
تتراقص فوق الشجر البري – ارتدي
نحوي ياهذي الجنية
من جاء بوهج الغاب إلي نافذتي السحرية
من جعل الشجر البري يعشش في
زمن البارات السرية
ياعم ناظم
أمس رأيتك في استامبول
تحمل مصباحك والشمس علي القيعان تجول .. إلخ
نحن هنا بإزاء تكوين شعري أيديولوجي مستقطب لكل لحظات الوجود في منظور الثورة العالمية كما كانت في خطاب الستينات في الشرق والغرب يتماهي مع الرجال الأبطال في الأناضول وأمريكا اللاتينية ، يرتكز علي اعتصار الألوان والرموز وينفث قدراً من التوحش في رؤيته للمرأة الوطن الثورة كما استقرت في مخيلة شعراء هذا الخطاب الأممي الجارف في زمنه الأقل الآن .
(ج) لكن شيئاً من اتحاد الألوان يحرم هذا الخطاب من التخالف الضروري من التناقض الذي تحفل به الحياة ، من التمييز بين طبيعة التجارب ، الأمر الذي تترتب عليه نزعة طاغية إلي الإحساس بالغين بالمقارنة مع الغير .
هنا نري كيف يجني التوافق مع موج التاريخ علي الشع يطغي علي إيقاعه يغرقه في أيديولوجيته يحرمه من الحياة المستقلة القادرة علي أن تستنفذ من براثن التآكل عناصره الجوهرية ، يجني علي إمكانات الشاعر في أن ينسلخ من الجماعة يتفرد عنهم بحيث يري ما لا يرون وينشق حتي علي الثوار أنفسهم إن رؤية الشاعر المعاصر تغيم كلما تماهي مع الآخرين وتصفو بمقدار ما يبتعد عنهم ويصدم منظورهم .
ولعل الأمر الجوهري الذي ينجم عن التوحد مع الجماعة هو تحول التجربة الشعرية إلي تنويعات محدودة علي نمط متسق معروف مسبقاً عندئذ لا تحفل بالتناقض الخلاق ، ولا تري الأمور من مواقع متفاوتة ولا تطوف بذاكرتها فكرة الصراع الدرامي المحتدم بين حقين في الوجود .
الأمر الذي يجعلها تتحول إلي نشيد ملحمي لا يعثر علي البطولات الكافية المنتصرة كي يتغني بها ، فيقوم بتضخيم وتكرار رموزه الصغيرة ويستعيض عن فقرها باستثارة رموز تاريخية عتيدة كي يسخر منها أو يتلبس بها ، ويتخذ عدداً من الأقنعة التعويضية التي تسعفه ف يغشباع اعتزازه بذاته المتوترة بين الفردية والجماعية كما يفعل عز الدين مثلاً في قناع امرئ القيس الذي يوظفه بمستويات مختلفة في النجاح والإخفاق ، لكن تظل القراءة اللاحقة لهذا الشعر دائماً مشوية بالذكري والتحنان ، تستعيد روائح زمنها وأمكنتها وروح عصرها الذي انخرطت علي مقاسه وأطره الأيديولوجية .
– فإذا ما انتقلنا إلي ثالث هؤلاء الشعراء الذين يجمعهم المكان ويتراوح بينهم الزمان قليلاً ، وهو إبراهيم نصر الله الأكثر شباباً وحداثة ، وجدنا أن أول ما يلفت النظر جذرياً في شعريته هو قدرته علي خلق وقائع شعرية جديدة علي صنع متخيل متميز تتجلي فيه الدعوة التداولية السابقة ! ” أتخيل أني وأعوكم لرؤية العالم باعتباره” حيث يكتسب الخطاب الشعري مذاقاً مخالفاً تماماً للإعلامي يفرد الخيال أجنحته فإذا بالحقائق التي يقولها تنتمي إلي طبيعة مغايرة لما تعودنا ريته .
أنه مثلاً يحقق للعاصمة التي ولد في مخيماتها “عمان” حضوراً شعرياً لم يسبق إليه ، وذلك عبر وعي ” ريما ” فتاة المخيم التي يتحدث عنها وباسمها في ديوانه الأول ” الخيول علي مشارف المدينة ” إذ يقول :
حدثتها السنون طويلاً
وعمان أبعد من حلمها العائلي
وأقرب من وجهها الساحلي
وتضحك في سرها
ليس بين المخيم والعاصمة
غير درب ستعبره ذات يوم
رفوف لقاءاتنا القادمة
…
والتقينا فقالت :
لعمان لون جراحي
ولون حنيني
ولون التي لم تزل ترتديني
تراباً .. وماء
والتقينا فقالت :
لعمان لوني حنين
ولكن ريما بفطرة ريح الشمال
تسافر للبحر كل مساء .
هنا يدخل الصوت الثاني الأنثوي نطاق القول الشعري ، يكسر طابع الغنائية المفردة ، ويتعرج بخطو استفراقاتها المباشرة .
تتعدد ألوان الخطاب وتتارءي شعريته الرهيفة وهي تتشكل في بعدها الإنساني الأول من ماء وتراب ، وتطوف القصيدة بحركة رشيقة موسيقية تصل بين المخيم والمذينة ، وتصبغ عوالمها بقواسم شعورية ووجودية بالرغم من كل الصراعات الدامية والخفية بينهما ، لكن لفتة ريما المفطورة ، بريح الشمال وسفرها للبحر كل مساء يحفظ للتحالف كيانه وللحنين ضرورته وللوطن السلليب ذكراه .
وأهم من ذلك يحفظ للشعر مسافته الجمالية المتباعدة عن الأحداث الآتية والكامنة في تلاقيف الريح وعبق الأمكنة الرامزة ولأن الشاعر المبتكر يعيد دائماً طرح سؤاله الغبداعي عن كنه عملية الخلق لديه ، يعيد وصف حالاته كما يعانيها ويوظفها بطريقته الخاصة فإن إبراهيم نصر الله يصف توقه لوحدة الجذر الجمالي لكل الفنون وهو يتأمل موقفه من القصيدة / العالم بقوله :
كلما أمسكت بقصيدة
أمسكت بجناح يوصلني إلي ذلك الألق الدائم
في قلب العالم
وذلك الدم المتدفق في عروق الكائنات
إنني أعرف الآن أن للفرح أكثر من جناح
ولذا أعبر المدينة الليلة .. بنقودي القلية ..
وأصابعي التي لم تعرف غير القصائد
باحثاً عن قيتار
أعبر المدينة .. باحثاً عن جناح
وفي الصباح
حين تشرق الشمس ويدود العالم أكبر من الكلمات
وأكبر من الاوتار التي تظللها الاإاني وقناديل الندي
أبحث عن الألوان
أبتاع ريشة .. وورقاَ
باحثاً عن جناح آخر ..
ولكن الذي يؤلمني
أن هذا الجسد يتيبس الآن ببطء
وأنني لن أستطيع في يوما ما .. أن أرقص الباليه ..
هذا الفرح المحلق باآلاف الأجنحة
إن هذا الانهمار الجمالي في الكون عبر منظومة الفنون ، للتلبس بفرحة الوجود – بالرغم من كل مآسيه – هو وسيلة الشاعر لتشعيره عندئذ يتخلي الخطاب عن قسريته أحاديثه ، ليكون أكثر تحرراً من اللون الواحد والحركة الموجهة ، ليكون شديد المدينة واسع النبالة ، متنوع المداخل لرؤية متجاوزة للضرورة الضاغطة قادرة علي أقصي درجات الحيوية والنفرة والتجدد .
ولعل أبرز ميزة يتسم بها شعر إبراهيم نصر الله أن يمتلك طاقة تجريبية هائلة فهو من هؤلاء المبدعين القلائل الذين يستطيعون خلق أشكال فنية جديدة ، ولسنا في مجال يسمح بالتطرق لمنجزاته السردية في الرواية ، مع أنها مظهر جلي لفوران هذه الطاقة وحسبنا أن نشير بإيجاز إلي مجموعة قصائده السردية المطولة ، وبعضها يشكل ديواناً بأكمله تتعدد فيه الأصوات والطبقات وتتري فيه المشاهد والانقطاعات ويقيم عوامل موضوعية بطرائق شعرية تتطلب التحليل النقدي الدقيق، لكنني سأكتفي في هذا الصدد بالإشارة السريعة للقصيدة المطولة “حوارية الغريب ” التي يقدم فيها سيرة داخلية للفتي السوداني عازف الجيتار ” علي عيد ” إذ أنها تكفي وحدها كي نستخلص منها صورة الخطاب القومي المهشم والمتوحد لأبناء هذا الجيل ، وهو يغني :
للوطن العربي .
للفرح السري
للأزهار
للأوتار
للأغنية
بلاد العرب أوطاني
من الشام لبغداد
ومن نجد إلي يمن
إلي مصر فتطوان
ثم يتبعها ببيت ساخرمفعم بالمفارقة والمرح الحزين ” هأ هأ هأ !! ” ، ما يعنينا في مثل هذه المطولات هو الاقتدار علي تكوين أشكال شعرية فائقة ، نجد عوامل موضوعية وحيوات خارجية لأصوات متشابكة مفعمة بالرغبة المتضاربة والأمل المقموع ، حيث يمثل – كما يقول :
” مدنا تتعثر
ولد أسمر
تصحو
ما زال القيثار وبعض أغاني الدم علي شفتيك
تصحو ..
في أقصي القلب تماماً
شجر يعدو ..
سحب يعدو ..
لكن الغربة والبوليس وصمت الظل
وكل الكل
عليك ..
تعبر عينيك الشمس ..
حديث لم يبدأ ”
وما أريد أن أبرزه في مثل هذه المغامرة الشكلية هو إن إمكانات تقديم رؤية للعالم في الإبداع الشعري من خلال القصيدة الغنائية المفردة الصوت قد تقلصت إلي درجة كبيرة ، وأن هذه الرؤية تتسع وتعمق بمقدار ما تقوي علي ابتكار واحتضان أشكال شعرية مستحدثة لابد من تنميتها في القصيدة العربية عبر المذكرات والحواريات والسرديات الشعرية إلي جانب الانخطافات الذاهلة للقصيدة الموجزة .
ثم – وهذا هو الأهم في تقديري – عبر تنمية المسرح الدرامي الشعري وأعتقد أن إبراهيم نصر من تلك الوعود الكبري في استئناف مسيرة هذه الدراما بعدما تكلست عقب رحيل صلاح عبدالصبور .
ومع أنه قد مر بتحولات عديدة حيث أصبحت بعض قصائده أكثر اكتنازاً أو كثافة وأحفل بغرائب الدهشة نظراً لارتفاع معدلات انحرافاتها التركيبية وأصبحت بعضها أشد طولاً وأعرض مناورة وأحفل بالحركات المتتالية إلا أن منظوماته الشعرية تجد دائماً خيطاً واصلاً يضمن لها رؤية كلية متبلورة ، إذ تشكل ضفيرة متسقة تألفت من نسيج أيديولوجي متماسك لحمته الموقف الوجودي للإنسان الفلسطيني بكل منحنياته الحادة ، مع التواصل العميق مع إيقاعات الحياة الثقافية العربية والامتصاص الوئيد لعناصرها الإبداعية والفكرية ، وتجاوزها عند الضرورة بالإضافة إلي غلبة التقنية السردية علي أدواته التعبيرية فكأنه يلتقط طرف الخيط عند كل قطعة ليستأنف منظومة متجانسة فيما يليها من قطع ، كل هذا يعزز رصيد ثري من أشكال التجسدي للحقائق الشعرية الجديدة بما يجعل نصوصه مفتوحة علي التجريب بقدر ما هي منسجمة في توافقها الكلي الشامل .
هنا يصبح الخطاب القومي أكثر شعرية وأشف سياسة في خصوبته المتنوعة ومعانقته لفعل الحياة الخلاق المحتضن للواقع والمنفتح علي المستقبل .
أغسطس 9 2011
السلطة والمثقفون …………………………. د. صلاح فضل
محاضرة
السلطة والمثقفون
د. صلاح فضل *
إعداد محمد عصفور
في إطار موسمه الثقافي اقام نادي الجسرة الثقافي الاجتماعي مساء الأربعاء 22/11/ 2000 محاضرة تحت عنوان ” السلطة والمثقفن ” ألقاها المفكروالناقد العربي المعروف الأستاذ الدكتور / صلاح فضل المستشار الثقافي لمصر في إسبانيا والمدير السابق لمعهد مدريد للدراسات العربية وصاحب الدراسات الرائدة في الفكر العربي والمعاصر وتأتي هذه المحاضرة من منطلق التغيرات الثقافية والسياسية والاجتماعية إلي يشهدها واقعنا العربي مرحلة الراهنة ، ودور المثقفين تجاه هذه المتغيرات وفيما يلي عرض لأهم ما جاءفي هذه المحاضرة حيث استهلها الدكتور صلاح فضل مبيناً أنه إذا كانت هناك دائماً فجوة مؤرقة بين الفكر والممارسة فإنها في حالة المثقفين أشد تفاقما وخطورة لأن لعبتهم هي الكلام ومن ثم فإن إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة تفرض علينا تأمل حالات عينية قبل استخلاصالنتائج التحليلية .
أريد أن اشير هنا إلي تعريف وظيفي محدد يرتضيه علماء الاجتماع المحدثين يري أن المثقفين هم عادة جماعة صغيرة تتألف من أولئك الذين يهتمون مباشرة بإنتاج الأفكار عن طريق الابتكار والنقل والنقد ، وهم يتشكلون من الفنانين المبدعين والفلاسفة والعلماء والمؤلفين المتخصصين في نظريات الأدب والاجتماع وعلوم الاتصال .
ويلاحظ عليهم أن أفكارهم تعتمد إلي نطاق أبعد م نمجالاتهم المهنية إذ ينشغلون بالأوضاع العامة للمجتمع ولا يقتصرون علي الإنتاج الأدبي أو المعرفي الذي يعنون به ، بحيث يمثلون قادة الرأي والفكر .
ويؤكد هشامك شرابي أن ما يميز المثقف في أي مجتمع صفتان أساسيتان .
– الوعي الاجتماعي الذي يمكن الفرد من رؤية المجتمع وقضاياه بمنظور شامل.
– كذلك الدور الاجتماعي الذي يحققه بهذا الوعي .
بينما يبرز برهان غليون الطابع الديناميكي الجماعي للمثقف ، حيث يري أن المثقفين هم تلك المجموعة من الناس التي تتميز عن غيرها بأنها تجعل من التفكير في الواقع والسعي للمصلحة العامة أحد همومها الرئيسية وتشارك في الصراع الاجتماعي والسياسي .
أما السلطة فهناك تعريفات عديدة لها وإن كانت غير مجهولة في أجهزتها وآلياتها علي اعتبار أن السلطة هي قوة ذات طابع نظامي رسمي ترتبط بمنصب أو موقع أو وظيفة رسمية معترف بها في المجتمع وتخول لصاحبها حق إصدار القرارت التي لها صفة الإلزام بالنسبة للآخرين وتمنحه في الوقت ذاته حق توقيع الجزاءات علي المخالفين .
من ثم فإننا في هذا التحليل الموجز سنقوم بعرض النماذج علي محور ثنائي هو السلطة السياسية والدينية لاكتشاف أشكال علاقة المثقف العربي في مصر بهما علي وجه التحديد ، وبوسعنا أن نتصور هذه العلاقة مبدئياً وهي تتراوح بين ثلاثة أوضاع لثلاثة أنواع :
أولاً: مثقف السلطة ، وهو الذي يضع فكره ومهارته ورأيه وخبرته في خدمة السلطة .
ثانياً: المثقف المتعاون مع السلطة وهو النموذج الغالب ويتفاوت مدي التعاون طبقاً لأهداف السلطة في توظيفها للمثقفين من ناحية وقدرة هؤلاء علي التوافق النسبي مع هذه الأهداف .
ثالثاً : نموذج المثقف المضاد للسلطة ، المناضل في وجهها ولابد أن يكون منفياً أو مهاجراً ، وقد كان هذا كثير الحدوث في حالات السلطات فاقدة الشرعية بشكل فادح ، مثل سلطات الاحتلال لكن هذا التقسيم نظري وافتراضي بحت ، وهو يتحدث عن المثقفين في ممارساتهم العملية ، مغفلاً جانباً هاماَ من كينونتهم الفكرية ، كما تتمثل في الخطاب الثقافي علي وجه التحديد ، فهناك خطاب تبريري يعبر عن مثقف السلطة ، ويفقد مصداقيته ، وهناك خطاب نقدي يحافظ علي مسافة الاستقلال الضرورية ويرقب مواقف السلطة بحذر ، وهناك الخطاب النقضي الغارق في أيديولوجيته المضادة ، المسرف علي نفسه في الرفض والسلبية .
طه حسين مثقفاً
كان طه حسين يري أنه ليس كل متعلم مثقفاً بالمعني الدقيق للكلمة فالمثقف عنده هو الشخصية العصرية ، ويحدد مسئولية هذه الشخصية بالقياس إلي البيئة التي تعيش فيها بمقدار ما يكون لها من حظ في الثقافة أو العلم ، وذلك أن الإنسان – علي حد تعبيره لا يحسن العلم ليجعله شيئاً بينه وبين نفسه دون أن ينفع به أحداً ممن يعيشون معه في بيئته أو وطنه .
ثم يقول إني معجب بهؤلاء المثقفين من المصريين نشأوا في بيئة معادية للثقافة أشد العداء ممانعة لها أشد الممانعة وقد بدأوا بأنفسهم فحرروها من كثير من التقاليد الثقيلة الفادحة قاومهم الشعب لأنه لم يفهم عنهم وقاومهم السلطان لأنه راي فيهم قادة الحرية والهداة إلي الاستقلال ( مستقبل الثقافة في مصر ) .
وقد كان هذا الموقف النظري لطه حسين محصلة ممارسة عملية عبر نصف قرن من العمل الفكري والإبداعي ، فماذا كانت علاقة طه حسين بالسلطتين الرئيستين :
السياسية والدينية ؟
– لقد اشتبك معهما في صراع وجود منذ اللحظة الأولي :
اصطدم بالسلطة الدينية للأزهر عام 1912 – وهو في الثالثة والعشرين من عمره – عندما تقدم لامتحان العالمية فرفضت إجازته لتمرده – واصل الاصطدام بها – وبالسلطة السياسية المتمثلة في مجلس النواب – عندما قدم للمحاكمة عام 1926 م علي كتابه في الشعر الجاهلي وعلي الرغم من تبرئة النيابة له ، فقد صدرت عدة كتب لإدانته مثل ” تحت راية القرآن ” لمصطفي صادق الرافعي .
– اصطدم بالسلطة السياسية بعد عامين فقط سنة 1928 عندما رشح ليكون أول عميد عربي لكلية الآداب فاعترضت حكومة الوفد ، وتولي العمادة يوماًُ واحداً ثم استقال لترسيخ مبدأ أحقيته .
– عين بعد ذلك عميداً للكلية ذاتها عام 1930 م لكنه بعد عامين أيضاً رفض منح درجة الدكترواه الفخرية لشخصيات سياسية بعيدة عن العمل العلمي والثقافي فأقيل من منصبه وتم إبعاده عن الجامعة كلها .
– عاد عميداً للآداب عام 1936 لمدة ثلاث سنوات انتدب بعدها مديراً مؤسساً لجامعة الإسكندرية ثم أحيل إلي التقاعد الجبري بعد عامين .
– تولي وزارة المعارف في حكومة الوفد الأخيرة .
– همشته حكومة الثورة ، بالرغم من حصوله علي أول جائزة تقديرية .
– كذلك هادن طه حسين السلطة الدينية بسلسلة كتب فيما أسماه الأدب الديني .
نستطيع أن نخلص إلي الملاحظات الآتية :
– لم يكن طه حسين مثقف سلطة في يوم من الأيام حيث ظل كما قال بحق محتفظاً بحريته وكرامته إلي ابعد حد ممكن .
– مثلاً رفض بروتوكولياً تقبيل يد الملك فاروق عند توليه الوزارة مكتفياً بالإشارة علي مضض لشكر ولي النعم .
– أشار علي الضباط الأحرار بتسمية حركتهم ثورة بدلاً من الحركة المباركة ، لكنه لم يتحول إلي داعية لها .
– تعرض لهجوم شرس من أقصي اليسار واليمين المتطرفين ، ومع أنه قد ألفت كتب لتكفيره فإن تأثيره الساطع علي الحياة الثقافية العربية لم يأفل حتي الآن .
* نجيب محفوظ – خطاب عن السلطة :
النموذج الثاني من الخطاب الثقافي المصري ستأخذه من أحدث ما نشر عن نجيب محفوظ يقول عن علاقته بالسلطة ” أنا مش بتاع سلطة ” فلم تكن السلطات في يوم من الأيام هدفي ومأربي ، لأنني ما كنت أستطيع الجمع بين السلطة والأدب ، فالأديب الذي يقدس مهنته ويعشق قلمه يفضل أن يبتعد عن السلطة بهمومها ومتاعبها ومشاغلها والتزاماتها ، السلطة الحقيقية التي طالما حلمت بها هي سلطة الأدب والفن .
وسلطة الأدب أسمي وابقي وأدفع من السلطة الإدارية .. من أجل الأدب أبتعدت عن العمل السياسي فلم انضم إلي حزب أو تنظيم سياسي لا قبل الثورة ولا بعدها .
فأنا إذا لم أكن ضد النظام ، بل كنت أنقذ غياب الديمقراطية في هذا النظام ولم تكن الديمقراطية من المحرمات ، بل هي المبدأ السادس من مبادئ الثورة ، وليس معني ذلك أنني كنت نائماً في العسل بعيداً عن المخاطر والمتاعب في مرات عديدة كنت علي حافة الهاوية .
يقول عن السادات : ” عندما وقعت حادثة المنصة التي قتل فيها السادات ، كنت أيامها أنشر رواية في جريدة “مايو ” التي تعتبر جريدة السادات واسم الرواية ليالي ألف ليلة ” وفي الرواية تحريض علي قتل الحاكم فلما وقعت حادثة المنصة توقف نشر حلقات الرواية لمدة أسبوعين لضيق المساحة ، ثم عادت الجريدة لنشر بقية الحلقات وصدرت في كتاب .. ويعد صدور الكتاب قرأت مقالة نقدية للدكتور يحيي الرخاوي الطبيب النفسي المعروف ، عن الرواية يؤكد فيها أنني تاثرت بحادث قتل السادات وأن العنف الموجود في الرواية هو نتيجة لمتابعتي للحادث ، ويبدو أن الدكتور الرخاوي لم يعرف أن الرواية نشرت في جريدة مايو قبل صدورها في كتاب وأن النشر كان سابقاً للحادث ، وحمدت الله أنه لم ينتبه إلي ذلك فلربما اعتبرني من بين المحرضين علي الجريمة وقدموني للمحاكمة أما علاقة محفوظ بالسلطة الدينية فقد ظلت متوترة في إطار المسالمة الظاهرة ولكنها انفجرت في مناسبتين مترابطتين :
أولاهما : عام 1958 عند صدور روايته ، أولاد حارتنا ثم الاتفاق الضمني بقرار غير مكتوب علي منع نشرها في مصر ، بعد حصوله علي جائزة نوبل .
وثانيتهما : في 14 أكتوبر عام 1994 في محاولة اغتياله ذبحاً عقوبة له علي هذه الرواية بيد متعصب ديني أحمق لم يقرأ للكتاب عملاً واحداً .
لكن مواقف محفوظ ضد الهيمنة الدينية المتعصبة بالرغم من مسالمته الوديعة مشهورة ومعروفة من ابرزها معارضته لفتوي إهدار دم الكاتب البريطاني سلمان رشدي .
– لم يكن محفوظ كاتب سلطة تبريري ولا كاتباً مناقضاً يعارض السلطة علي طول الخط فقد احتفظ بموقفه النقدي .
– ظل نجيب محفوظ في خطابه الإبداعي والصحفي وحياته الاجتماعية من أخلص المثقفين لمبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية .
الحالة الثالثة لمثقف مختلف عنيد وعارم هولويس عوض ، والنموذج الذي سنعتمد عليه من خطابه هو من أواخر وما كتب في ” أوراق العمر ” حيث يقول: عشت في الخرطوم السنوات الخمس الأولي من حياتي وقد جعلتين من أشد المصريين إيماناً بالإخاء المصري السوداني ، وقد حزنت حزناً عميقاً يوم قرر السودان الانفصال عن مصر في استفتاء 1955 م وكنت في بادئ الأمر كأكثر المصريين ألوم سياسة عبدالناصر في تعامله العنيف مع محمد نجيب بأنها أدت إلي الانفصال فقد كان السودانيون يرون في محمد نجيب رمزاً لوحدة وادي النيل بسبب دمه المصري السوداني المختلط .
وقد ظللت علي إيماني بوحدة وادي النيل حتي كان انفصال سوريا عن مصر عند ذلك عدلت مواقفي من كافة أنواع الوحدة والإتحاد الفيدرالي وأصبحت أكتفي بأنواع من التقارب الإقليمي أقل مجازفة وأكثر طبيعية كان لويس عوض نموذجاً للمثقف العضوي السياسي الذي خاض معارك ضارية من أجل آرائه ضد رموز السلطة السياسية والدينية معاً .
– كانت أول ارتطاماته بالسلطة عندما استقال من عمله كمشرف علي صفحة الأدب بجريدة الثورة “الجمهورية ” احتجاجاً علي استخدام العنف ضد المتظاهرين .
– فصل من عمله في الجامعة مع 54 أستاذاً من المطالبين بالديمقراطية .
– أعتقل لمدة ستة عشر شهراً مع الشيوعيين ، ثم أفرج عنه وعاد للعمل بجريدة الجمهورية ريثما أنتقل بعدها إلي صحيفة الأهرام .
– أبعد عن الأهرام ي أزمة السادات مع المثقفين عقب توقيع الاتفاقية وكتب في مجلة المصور .
– أما أول ارتطاماته بالسلطة المحافظة فكانت ديوانه المبكر بلوتولاند الذي نشره ودعا فيه إلي كسر رقبة البلاغة العربية والكتابة بالعامية .
– لكن مقالاته من المعري ورسالة الغفران فجرت أعنف معاركه مع الأستاذ محمود شاكر زعيم المحافظين السلفيين وعدو طه حسين .
– أخطر معارك لويس عوض الفكرية مر بصمت بلليغ لأنه كتابه ” فقه اللغة العربية ” الذي اعتبر عدواناً علي الفكر الديني والأصالة العربية قد صودر عام 1981 ولم يسمح له بالدفاع عنه .
– لم يشترك في تبرير الناصرية وإن ظل يدافع بضراوة عن منجزاتها ولم يقع في شرك العداء المطلق للسلطة محافظاً علي شعرة معاوية ، ومع أنه كان علمانياً في مجتمع تقليدي فقد مارس فعالية ثقافية خلاقة ونادرة .
بالرغم من محدودة هذه النماذج التي اخترناها من الخطاب الثقافي المصري في علاقته بالسلطة فإنها تمثل جيلين كاملين وتبرز حقيقة بادهة ، وهي أن المثقف المؤثر في حركة الفكر والحياة في المجتمع لتنمية وعيه وتحديث بنيته لا يمكن أن يكون مثقف سلاطة لصيقاً بها مبرراً لأخطائها . كذلك فإن الجناح الآخر من متشنجي اليسار ومتطرفي اليمين مما كانوا يمتلكون موهبة فكرية أو إبداعية قد خسروا في عدائهم للسلطة فرص التواصل مع النأس والتأثير في توجهاتهم فضمرت إمكاناتهم .
بقيت ملاحظة أخيرة تتعلق بما تبلور من إستراتيجية واضحة للمثقف العربي في مصر حول منظومة القيم الموجهة لحركته وعلاقته بالسلطة وهي القيم التي تقود خطاه في إنتاجه الفكري والإبداعي ومواقفه العامة وتتلخص في الدفاع المستميت عن الحريات بكل تجلياتها ومظاهرها ،واعتبار التطور الديمقراطي هو أنجح الوسائل لتحقيق التقدم وترسيخ مبادئ التفكير العلمي في مواجهة الغيبيات.
فالحرية والعلم والعدالة محددات المثقف العربي في مصر تجاه السلطات كلها.
الاستشراق في جامعة ياجيلونسكي في كراكوف
د/ بربارة ميخالاك – بيكولسكا *
مدينة كراكوف هي واحدة من أكبر وأقدم المدن البولندية في عام 1038 جعل منها الملك البولندي Kazimiez Odnowiciel ( كاجمييج اودنوفيتشيل ) عاصمة للدولة البولندية أن اقدم مقر لجامعة ياجيلونسكي هو مبني (كوليجيوم مايوس) الذي يعتبر من بين أروع الأبنية في الجزء القديم من كرادوف ، إذ يعود تاريخ بنائه إلي القرن الخامس عشر ، وفي عام 1978 أعلنت منظمة اليونسكو هذه المدينة مركزاً محمياً للتراث الثقافي العالمي وهي حالياً العاصمة الأوروبية للثقافة .
في عام 1364 أسس الملك البولندي ( كاجمييج فييلكي ) في مدينة كراكوف عاصمة المملكة البولندية آنذاك ، جامعة كانت الأولي من نوعها في أوروبا الوسطي ويرجع أن مقرها ذلك كان قائماً في القصر الملكي ” فافيل” علي مرأي من عيني الملك نفسه ولم يمض وقت طويل علي تاسيس هذه الجامعة حتي شغلت مكاناً مرموقاً في الثقافة العالمية كان ( ستانيسواف من سكاربيمييج ) ( المتوفي عام 1431 ) أول رئيس لها ، ويعتبر اليوم أحد واضعي القانون الدولي العام أزدهرت جامعة كراكوف في مجالي الرياضيات وعلم الفلك في النصف الثاني من القرن الخامس عشر وقد درس فيها في الفترة 1491 – 1495 عالم الفلك الشهير نيقولاوس كوبرنيكوس صاحب النظرية – الثورة ( عن دوران الأجسام الزرقاء ) ، ومما يدل علي مكانة الجامعة العالمية المميزة في ذلك الوقت إزدياد عدد الطلاب الأجانب في صفوفها حيث بلغت نسبتهم 44 % من مجمل عدد الطلاب الدراسين خلال الفترة الممتدة من 1433 – 1510 ، واصبحت كراكوف إلي جانب إشبيليا وتوليدو المركز الأكاديمي الأكثر شهرة واضحت وجامعتها مركزاً هاماً لعلوم الجغرافيا أيضاً ، وقد تم إدخال تعليم اللغة اليونانية إلي حقل التدريس في بداية القرن السادس عشر الأمر الذي شكل سابقة لا مثيل لها في أوروبا وفي ذلك العصر نشأ فيها شعراء مشهورون بولنديون مثل (يان كوخانوفسكي ) ( ميكواي ري ) و
( أندجي فريتش مودجييفسكي ) وفي نهاية القرن السابع عشر كان الملك البولندي
( يان سوبيسكي الثالث ) أحد طلاب هذه الجامعة التي شهدت في القرن الثامن عشر تطورات إيجابية حيث بدأ فيها التعليم المنظم للغات أجنبية مختلفة كالفرنسية والألمانية وأدخلت إلي مقرراتها محاضرات حول القانون البولندي والهندسة العسكرية وقد أجري رئيسها البولدني في تلك الفترة ( هوغون كرونتاي ) إصلاحات جذرية فيها فأحدثت بنية تنظيمية جديدة لها وأنشئ مرصد فلكي وحديقة للنباتات ومستوصفات سريرية بالإضافة إلي ذلك بني أول مخبر فيها أخذت المحاضرات تلقي في أقسامها باللغة البولندية ومنذ بداية عام 1817 أصبح اسم هذه الجامعة ” جامعة ياجيلونسكي ” وغدت إحدي أكثر الجامعات أهمية في عالم العلم ، وكان لتوسيع البنية التحتية لهذه الجامعة الفضل الأكبر في الوصول إلي ذلك المستوي العلمي الرفيع في العام الدراسي الذي سبق الحرب العالمية الأولي كان في هذه الجامعة 97 قسماً وأكثر من ثلاثة آلاف طالب وطالبة وقد بدأت الطالبات بالدراسة في هذه الجامعة منذ عام 1897 .
لقد كان وضع جامعة ياجيلونسكي تحت نير الاحتلال النازي اثناء الحرب العالمية الثانية مأساوياً ، في السادس من شهر نوفمبر عام 1939 قام الألمان بدعوة أساتذة الجامعة لمحاضرة كانت بحقيقتها خدعة حيث قام رجال الأمن الألمان باعتقال 144 أستاذاً ومعيداً وعددا من طلاب الجامعة وأرسلوهم جميعاً إلي معسكرات الاعتقال والتعذيب وأغلقت الجامعة وتم فك وتخريب الكثير من تجهيزاتها ونقل الجزء الكبير منها إلي ألمانيا لكن إرادة العلم عند كوادر هذه الجامعة وطلابها بقيت حية وبدأ التعليم ينشط من جديد سراً . فحتي نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 تلقي العلم فيها سراً حوالي 800 طالباً ، وفي العام الدراسي الأول بعد الحرب بلغ عدد الطلاب المسجلين فيها أكثر من خمسة آلاف ولسوء الحظ بدأت في عام 1948 فترة سيئة في تاريخ هذه الجامعة ، حيث شملتها سلبيات ما سمي بفترة الحكم الستاليني ، ولكن عام 1956 شكل نقطة انعطاف حيث بدأ الأساتذة المبعدون من قبل بالعودة إليها وفي عام 1964 احتفلت جامعة ياجيلونسكي بذكر مرور 600 سنة علي تأسيسها .
تتألف هذه الجامعة حالياً من إحدي عشرة كلية هي : الحقوق والإدارة والفلسفة ، التاريخ الآداب الرياضيات والفيزياء البيولوجيا وعلوم الأرض الكيمياء وكلية إدارة الأعمال والعلاقات الاجتماعية وابتداء من 12 مايو عام 1992 عاد كوليجيوم الطلب ليصبح إحدي كلياتها ويتخذ رئيس الجامعة وعمداء كلياتها مقاراً لهم في مبني كوليجيوم نوفوم الذي تم بناؤه في عام 1887 ، بالقرب منه يوجد مبني كوليجيوم مايوس الذي يعتبر أول كوليجيوم للأساتذة وقد كان في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مقراً لمكتبة ياجيلونسكي ، أما متحف جامعة ياجيلونسكي ، المتواجد حالياً في هذا المبني والذي يضم مجموعة من التجهيزات القديمة المعدة للتعليم وتذكرات من مختلف فترات عمل الجامعة وصوراً عديدة لأساتذتها هو دليل حي وقاطع يثبت أن جامعة ياجيلونسكي هي أقدم مؤسسة تعليمية في بولندا .
تعود بداية تاريخ قسم الاستشراق في كراكوف إلي عام 1919 عندما تم بناء علي اقتراح من الأستاذ تاديوش كوفالسكي تنظيم ندوة نحول موضوع آداب الاستشراق درس تاديوش كوفلسكي في فيينا وكان مدرسه الأستاذ وهو العالم الكبير في مجال الأدب العربي الكلاسيكي وقد بدأ العمل عام 1911 / 1912 في جامعة ستراسبورغ التي عمل فيها آنذاك محاضران قديران في مجال الاستعراب والاستشراق هما وفي عام 1914 حصل تاديؤش كوفالسكي من جامعة ياجيلونسكي علي درجة بروفيسور مساعد بعد تقديمه الطبعة النقدية لديوان الشاعر العربي القديم قيس بن الحاتم وترجمته وكانت هذه أول درجة علمية بهذا المستوي تم تحقيقها في مجال الاستعراب في تاريخ العلوم البولندية ولم تقتصر اهتمامات تاديؤش كوفالسكي العلمية علي الشرق الأوسط العربي بل طالت أيضاً تركية وفارس .
وكمستعرب فقد أنصب اهتمامه علي الشعر العربي القديم ، إذ صدر من بين ما أصدره ديوان قيس بن الحاتم (1914) وكعب بن زهير (1950) وذلك بالتعاون مع الأستاذ تاديؤش ليفيتسكي عدا ذلك اهتم بنظرية الادب العربي وأثمر ذلك كتاباً نشره تحت عنوان ( محاولة وصف وتصوير الإنتاج الأدبي العربي ) (1932) وفي عام 1935 أصدر في كراكوف كتاباً بعنوان ( علي دروب الإسلام ) وهو عبارة عن مقتطفات من تاريخ ثقافتا الشعوب الإسلامية أما في عام 1946
فقد نشر مجموعة من تقارير فبراهيم بن يعقوب عن سفره إلي البلدان السلافية نقلها البكري (1) .
ولمع اسم أستاذ آخر في مجال الاستشراق هو وكانت له شهرة عالمية ولد ليفيتسكي في التاسع والعشرين من شهر يناير 1906 في مدينة لفوف ، وبدأ فيها عام 1925 دراسة الحقوق وذلك في جامعة يان كاجمييج في عام 1928 سافر إلي باريس حيث درس العلوم السياسية واللغات الشرقية وكان راغباً في الوقت نفسه بالعمل في المجال الدبلوماسي وبالسفر إلي بلدان العالم الإسلامي ، ومن هناك سافر للمرة الأولي إلي الجزائر حيث عاش في الوسط العربي عدة شهور وقام برحلته الأول يفي الصحراء في لباس رجال البدو ورافق رعاة الجمال ، وقد كان لاتصالاته بالعالم العربي في سن شبابه تأثير كبير علي مسيرة حياته كاملة وبعد عودته إلي لفوف بدأ رداسة الاستشراق تحت إشراف الأستاذ ( زيغمونت سموغوجيفسكي ) الذي كان في دراساته مهتماً بالدرجة الأساسية بطائفة العبادية المسلمة في عام 1931 نال درجة الدكتوراه بعد تقديمه بحثاً عن تاريخ إفريقيا الشمالية في فترة مبكرة من العصور الوسطي وقد ضمه الأستاذ سمو غموجيفسكي إلي دائرة المهتمين بطائفة العبادية ويشكل أساسي إلي اتباعها من مزاب في الصحراء الجزائرية الوسطي ومن المغرب العربي ومن جزيرة جرية وعمان ، وقد تابع الأستاذ اهتمامه بهذا المجال حتي نهاية حياته وأصبح أكثر الباحثين اعتبارا وشهرة في اوربا في هذا الاختصاص أن حصوله علي منحة في جامعة السوريون في الفترة 1932 – 1934 مكنه من جمع الكثير من المواد العلمية عن تاريخ السلافيين واللغة العربية وآدابها حيث نشرها لاحقاً في عمله الذي يحمل عنوان ” بولندا والدول المجاورة لها في ضوء ” كتاب روجير ” لعالم الجغرافيا العربي الإدريسي في القرن الثالث عشر ( الجزء الأول 1945 والجزء الثاني 1954 ) .
في عام 1948 ترأس تادؤش ليفيتسكي قسم الاستشراق في جامعة ياجيلونسكي وحوله في عام 1972 إلي معهد للغات الشرقية وآدابها الذي ضم وقتذاك الأقسام التالية : قسم اللغة العربية وآدابها ، قسم اللغة الفارسية وآدابها وقسم اللغة التركية وآدابها وقسم اللغة الهندية وآدابها ، ثم قسم اللغة اليابانية وآدابها منذ عام 1989 .
وهكذا جعل ليفيتسكي من قسم اللغات الشرقية وآدابها الذي خلفه الأستاذ تاديؤش كوفالسكي بعد وفاته ، معهداً له شمولية أوسع في مجال البحث ليشمل بلدان وثقافات الشرقين الأقصي والأوسط وصولاً حتي إفريقيا ويفلض جهود هذا الأستاذ نشأت في عام 1959 مجلة (فوليا أورينتالنا ) عدا ذلك طلب منه التعاون والمساعدة في إعداد الطبعة الثانية لموسوعة الإسلام حيث أغناها بالتعابير والمفاهيم التي تخص تاريخ إفريقيا الشمالية وثقافتها ولهجاتها .
ومنذ بداية الستينات انخرط الأستاذ ليفيتسكي في إجراء ابحاث حول تاريخ إفريقيا ، وعلي وجه الخصوص اهتم بالكتابة حول البربر .
قبيل نهاية الخمسينات قام الأستاذ ليفيتسكي بإنشاء شعبة الدراسات المتعلقة بالقطع النقدية والاوراق المالية في معهد تاريخ الثقافتا التابع للإكاديمية البوندية والأوراق المالية في معهد تاريخ الثقافات التابع للأكاديمية البولندية للعلوم .
تحولت هذه الشعبة في عام 1968م إلي شعبة خاصة بدراسة مصادر الاستشراق واصول القطع النقدية والأوراق المالية في معهد اللغات الشرقية وآدابها ، وقد شجعه علي اتخاذ هذه الخطوة العثور علي قطع نقدية عربية في الأراضي البولندية .
وبعد عدة سنوات من ذلك الوقت قام بتوسيع مجال عمل هذه الشعبة لتشمل الأبحاث المتعلقة بمصادر الاستشراق التي بدأها بنفسه قبل ذلك الوقت بعدة سنوات عندما أصدر في عام 1956 الجزء الأول بعنوان ( المصادر العربية المتعلقة بتاريخ حياة الشعوب السلافية ) ، وكذلك كان الأستاذ ليفيتسكي أول من ترجم كتاب ألف ليلة وليلة إلي اللغة البولندية ترجمة كاملة ، وقد نشرت في وارسو في عام 1974 ، تتالف قائمة الأعمال والكتب التي أصدرها الأستاذ ليفتيسكي في الفترة 1929 – 1993 من نحوالي خمسمائة نقطة تشمل المقالات والأعمال النقدية والكتب التي تتناول بالإضافة إلي طائفة العبادية المسلمة تاريخ العصور الوسطي لكل من أوروبا وإفريقيا الوسطي وجنوب شرق آسيا (2) .
وهناك اسم لامع آخر في هذا المجال هو الأستاذ (رومان ستويا ) (1885 – 1995) الذي بعد انتهائه من دراسة الأدب الكلاسيكي بجامعة ياجيلونسكي سافر إلي إفريقيا الجنوبية وتعلم هناك اللهجات المحلية وكان المتخصص الوحيد في مرحلة الأربعينات بعلم لغات ما سمي بإفريقيا السوداء وقد حاضر وقتذاك في مجال اللغات السواحلية والهوسة والكوشي .
أما الأستاذ Andrzel Cazapkiewicz (1929 – 1990 ) فكان شخصية بارزة في مجال اللغة العربية ولهجاتها وكذلك في مجال اللغات السامية في الفترة 1948 – 1952 درس اللغة العربية وآدابها في جامعة ياجيلونسكي تحت إشراف الأستاذ تاديؤش ليفيتسكي بعد التخرج عين معيداً مساعداً للأستاذ ليفيتسكي وفي عام 1964 نال درجة الدكتوراه بع تقديمه بحثاً عن ( العناصر المصرية والقبطية القديمة في أصول واشكال التسميتا في مصر الحديثة ) وقد نشر هذا البحث في كراكوف عام 1971 ، وفي عام 1975 صدر له في مدينة فروتسواف البولندية كتاب بعنوان الفعل في اللهجات العربية المعاصرة وقد عني هذا الكتاب بمشاكل علم اللغة في العالم العربي كما هو الحال أعماله الأخري مثل ( نصوص تجريبية من مآدبة ) التي صدرت في فروتسواف في عام 1960 والمصطلحات العربية التي صدرت في عام 1983 وتشير عناوين إصدارات الأستاذ تشابكيفيتش إلي اتجاهين أساسيين في أبحاثه المنصبة علي مجال عمل اللغات أولهما : علم اللغات وتاريخ علم اللغة في العربية ، وثانيهما : دراسة أو جمع القطع النقدية والأوراق المالية العربية ، وأصدر في هذا المجال بالاشتراك مع وتاديؤش ليفيتسكي دراسة علمية بعنوان ( خزينة الدراهم من تيشخوف ) التي نشرت في فروتسواف عام 1957 عدا ذلك قام الأستاذ تشابكيفيتش بكتابة عدة مؤلفات لتعليم اللغة العربية منها نتعلم اللغة العربية في عام 1977 ومختارات من النصوص العربية الاختصاصية في عام 1982 (3) .
وقد ترقي الأستاذ تشابكيفيتش بعد أن تقاعد الأستاذ تاديؤش ليفيتسكي ليصبح في عام 1976 مديراً لمعهد اللغات الشرقية وآدابها وشغل في نفس الوقت منصب رئيس قسم اللغة العربية وآدابها ورئيس شعبة دراسات القطع النقدية والأوراق المالية والمصادر الشرقية .
أما الأستاذة Maria Kowalska فهي متخصصة قديرة في مجال تاريخ الأدب العربي المتعلق بالجغرافيا والترحال ولدت في عام 1919 وإلي الآن تدير حلقات بحث للطلاب المتقدمين لشهادة الماجستير وهي تلميذة للاستاذين تاديؤش كوفالسكي وتادؤش ليفيتسكي وتتابع أعمالهما ومسيرتهما وقد نالت شهادة الدكتوراه في عام 1965 في بحث تقدمت به عن الجغرافيا العربية بعنوان مصادر القزويني عن آثار البلاد ، وهي مؤلفة كتب عديدة قيمة مثل كتاب ( أدب الترحال العربي في العصور الوسطي ) الصادر عام 1973 وكتاب أكرانيا في منتصف القرن السابع عشر استناداً إلي تقارير الرحالة العربي بولص بن المكري من حلب الصادر في وارسو عام 1986 ، في الفترة 1994 – 1999 شغلت منصب رئيس قسم اللغة العربية وآدابها معهد اللغات الشرقية وآدابها في جامعة ياجيلونسكي ولا يزال لها دور فعال في تطوير علم الاستشراق في بولندا من انب آخر ترأست الأستاذ كوفالسكا لسنوات طويلة فرع جمعية الاستشراق البولندية في كراكوف وإلي اليوم هي عضو في مجلس إدارة مكتب أبحاث الاستشراق .
ويتناول الأستاذ باهتمام كبير المسائل المتعلقة بعلم اللغة العربية السامية ويهتم بشكل رئيسي باللهجات وبالبنية التركيبية للغة العربية المعاصرة ، ومنذ سنوات طويلة يحاضر خارج البلد في جامعات النمسا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا ، وهو متخصص في اللهجة المصرية وقد أصدر كتابين حول اللهجة المصرية ، الأول في عام 1982 بعنوان ( اللهجة المصرية في اللغة العربية ) والثاني في عام 1988 بعنوان ( محادثات باللغة العربية – اللهجة المصرية ) بالإضافة إلي ذلك قام بتأليف العديد من الكتب المخصصة للهجات العربية .
من بين الشخصيات اللامعة الأخري الأستاذ Ardzej Kapiszewski الذي يحاضر في مادة ثقافة العرب من عام 1999 وقد شغل من قبل منصب السفير البولندي في دولة الإمارات العربية المتحدة في الفترة 1995 – 1997 أصدر العديد من المؤلفات عن بلدان دول شبه الجزيرة العربية أهمها بعنوان Native Arab Population and foreign workers in the gulf states social Economic and securitu issues التي صدرت في كراكوف في 1999 وكتاب Nationals and expatriates population and labour Dilemmas for the gulf corperation council states . الذي صدر في لندن عام 2000م .
الشخصية الأصغر سناً بين كار الأساتذة هذا هي الأستاذ بربارا ميخالاك بيكولسكا التي تتناول في دراساتها الادبي العربي المعاصر وخصوصاً أدب بلدان شبه الجزيرة العربية نالت شهادة
* رئيسة قسم اللغة العربية في معهد اللغات الشرقية في كراكوف ببولندا .
بواسطة admin • 05-حوار العدد • 0 • الوسوم : العدد الثامن, صلاح فضل