أغسطس 26 2014
جثة الغريق ……………….……. قاسم مسعد عليوة
جثة الغريق قاسم مسعد عليوة قاص من مصر
هى فقهة لا أكثر، أصابت البحر، وما لبثت أن تلاشت لمَّا تجشأ جثة الغريق. المتناثرون على الساحل تجمعوا حولها بعدما ناداهم أحدهم. وغلفهم الفضول والحُزن. الرجال أظهروا الامتعاض، والنساء ولولن، والأطفال بان عليهم الاكتئاب. بعد لحظات مِن الارتباك واللطم والولولة ران الصمت والترقب على الجميع.كانت الجثة عارية الرأس، حافية القدمين، ملفوفة بالطحالب، منتفخة، ومفككة الأوصال. وعلى الرغم مِن تمددها فوق اليابسة فإن أطراف الموج الفاتر ظلت تؤرجحها كلما امتدت إليها أوانسحبت عنها، وفى كل مد وجزر تترك فوقها الزبد وأقذار البحر.هى جثة رجل. ربما كان شاباً، وربما كان متوسط العمر، فالتورم والضمور ضخَّما وقلَّصا الملامح والأعضاء، لكنهما مع هذا أتاحا هذين الاحتمالين دون سواهما، فهو إما شاب فى دائرةالعشرين أو كهل فى دائرة الثلاثين، لكنه أبداً لن يتجاوز الأربعين. ما قوَّى من هذين الاحتمالين الزى العسكرى الذى يلف جثته.لمن هذا الزى؟.. لنا أم للأعداء؟.. قرأتُ السؤالين المترادفين فى أعين المحيطين.. الكبار والصغار.. القليل المهلهل منه لا يساعد على التمييز، فاللون واحد، والنسيج واحد، حتى طريقة التفصيل ـ الشىء الوحيد الذى يميز بين زينا العسكرى وزى الأعداء ـ أتلفته الأمواج التى تقاذفته قبل أن تمجه.نطق شاب:ـ ربما لم يكن جندياً بالأساس.وجاوبه آخر:ـ كثيرون يرتدون ثياباً تشبه ثياب العسكريين.ودخل الحلبة ثالث:ـ لكننا فى حالة حرب، وقليلون هم المجانين الذين يفعلون هذا.أما الرابع فتنهد وقال:ـ لو أبقى البحر على حذائه، أو ألقاه إلينا الآن.. ربما أمكننا التمييز..وزفر الخامس:ـ .. أو حتى الكاب أو البيريه..وبعد هذه الفورة مِن الكلام صمتوا.كان أحدهم قد هرول إلى مكان ما وعاد برفقة شرطى. ولمَّا كان الشرطى شرطياً، فإنه لم ينس أن يُظهر لهؤلاء المدنيين أنه بالفعل شرطى. تفحص الجثة بنظرات محاذرة، ثم وقف على رأس الغريق وأمر:ـ اقلبوه.متوترين مترددين تقدم ثلاثة مِن المتجمِّعين ونفذوا الأمر. صحيح أنَّ أجزاءً مِن جثته تفسخت ونسيج الزى تمزَّع، لكن العيون المتوترة الملهوفة تأكدت مِن أنَّ الزى عسكرىٌ بالفعل. بان هذا مِن خزانة الرصاص الفارغة المعلقة بحزامه؛ ومع هذا فالتمييز ظل عليهم صعباً فالأحزمة هى هى يستخدمها جنودنا وجنودهم، والرصاص هو عين الرصاص، والخزائن هى ذات الخزائن، فصانعها واحد وبائعها لنا ولهم واحد.سأل الشرطى:ـ منا أم منهم؟ما مِن أحد أجابه، لأنهم كانوا ينتظرون الإجابة منه هو، فهو ممثل الحكومة ويُفترض أن يكون هو الأدرى والأكثر خبرة بجنود الأعداء.ردَّ عيونهم عنه بأمر جديد:ـ فتشوه.بتوتر وتردد أخف تقدم الشجعان الثلاثة الذين قلبوا الغريق الرميم لتفتيشه. مَدَّ أولهم يده إلى الساعة التى تحيط برسغه وسلتها، فكشط جلد الكف المنتفخ وبانت زرقة اللحم المشبع بالماء والغاز.. لكن ماذا فى الساعة يتيح تمييز ما إذا كان منا أم من الأعداء؟.. حتى هى ما عادت تصلح كساعة، فقد خلع عنها البحرُ زجاجها وعقاربها وميناءها ولم يترك فيها سوى بعض تروس مفكوكة ومُعطلة كأجهزة جسم الغريق.
بعدما تيقن الإثنان الآخران مِن تبدد ما كانا يعولانه على الساعة، وأنها لم تقدم ما يعفيهما مِن تنفيذ الأمر بالتفتيش، انحنيا فوق ما تبقى مِن جيوب الغريق، وما هى إلا ومضة حتى قفز البادئ فزعاً بعدما وثبتْ مِن بين أصابعه المدسوسة لتوها فى جيب السترة سميكة حية راحت تتقافز وتثب فوق الرمل المبلول.
ضحك البعض وبكى البعض؛ ولأنها سميكة رشيقة وشقية فقد وثب إليها صبى وعفقها، إلا أنَّ امرأة باكية أسرعتْ وأطاحتْ بها مِن يده إلى البحر، ثم وقفتْ إلى جوار الغريق وواجهتْ الطفل والشرطى والباحثين الثلاثة وأسمعت صوتها الجميع:ـ ربما كانت روحه قد حلت فى هذه السمكة.ممسك الساعة وضعها تحت عينى الشرطى، وانضم إلى زميليه، وبحذر أكثر استلم كل منهم الجيب القريب منه وبدأوا يخرجون ما يجدونه ويضعونه إلى جوار الساعة.. مشط، منديل، ولاَّعة، حلقة بها مفاتيح، وردة بلاستيكية، وصورة مكرمشة حائلة الألوان لرضيع مغمض العينين باك. كأنها التقطت لحظة ميلاده، فمن البطانية الملفوف بها تظهر أجزاء مِن القماط. تكأكأ أكثر من واحد على الصورة عسى أن يتبينوا ما يستدلون به على صاحب الجثة، لكن حتى وجه الرضيع لم يُبَيِّن بالكيفية التى أبقاها عليها البحر أهو من أطفالنا أم من أطفالهم، فالرأس عارية مِن الشعر، وما مِن علامة واحدة يمكن الاستدلال بها حتى على نوعه وما إذا كان ذكراً ام انثى.توقف الثلاثة عن التفريغ، فسأل الشرطى:ـ فقط؟جاءه الرد:ـ فقط.سأل مجدداً:ـ ألا توجد محفظة؟.. بطاقة؟.. أوراق؟.. تصاريح؟.. رقم ميدان؟.. نقود؟..ولما لم تأته أية إجابات زعق بصوته الشُرَطى:ـ اريد أنْ أعرف.. منا صاحب هذه الجثة أم منهم؟ولأن زعقته كانت عالية فقد ظل صداها يتردد فوقنا وفوق البحر الذى استراح بعد ما تجشأ ولفظ هذه الغريق.
ديسمبر 31 2014
لكل مرآةٍ فى الحرب وميض …………. قاسم مسعد عليوة
لكل مرآةٍ فى الحرب وميضقاسم مسعد عليوةكاتب من مصرنعم .. صدري مثقلٌ بالنياشين..لكننى فى الـمـرايا لا أراهـا.البنت الجميلة والمدينة الحطام من كل العمارة المنهارة، من طوابقها وسلالمها وأثاثاتها وموبيلياتها، لم يبق سليماً سوى التسريحة. لا شظايا أصابتها ولا خدوش نالت منها. على الرغم من قصفات الهاوزر، مرآتها كما هى، رائقة براقة، وأدوات الماكياج ثبتت، هى وزجاجات البرفان ومياه الكولونيا، والأمشاط، والفُرَش. فوق المفارش المذهبة المفرودة فوق لوح البلور ظلت فى مواضعها. لم تمِلْ أو تتدحرج، ولم تسقط لتختلط بحطام الأشياء أسفل منها. وأدراج المجوهرات ظلت على حالها، مستوية، مقفلة، ومقابضها لامعة لم يَِعْلَقْ بها أى عُفار، ولم تنل منها شظية أو رطمة حصاة.
والبنت فوق كرسيها، الذى بلا مسند، جالسة إلى المرآة، منهمكة فى عقص شعرها، والراديو الترانزستور الذى كانت تتلهى بموسيقاه عن هدير القصف ما زال يبث أنغامه في الهواء المفعم بالأدخنة والأتربة وروائح البارود.
توقفت دانات الهاوزر، ومن البعيد أتت دبابة، هرستْ الحطام وإلى يمين تل الركام الذى تجلس فوقه البنت وقفتْ. ما إن انقشعت دوامات الغبار التى أثارتها الجنازير المتحركة حتى جعلت أخرى من التل مصطبةً لها، وأرسلت بقذيفة مرقت من فوق المرآة ورأس البنت، واتجهت إلى العمارة القريبة. الدبابة التى إلى اليمين اقتربت فى تحركها من البنت المنهمكة لاتزال فى عقص شعرها، وحَفتْ بذيل جوبتها الموشاة بالدانتيلا، وأرسلت بقذيفة أخرى نحو العمارة الأبعد. مع ارتدادة القذف والاندفاع المفاجئ إلى الأمام أسقط جنزير الدبابة بعض الركام من التلة التى تجلس فوقها البنت فلم تهتز.. لا هى ولا أشياؤها ولا صورتها فى المرآة.
مقاومون تقافزوا بملابسهم المدنية بين تلال الركام وصوبوا البازوكا إلى جسمى الدبابتين. من برجيهما خرج جنود يطلقون رشاشاتهم بكل اتجاه. إلى جوار البنت اندفع الرصاص وامضاً. المقاومون باغتوا الجنود رصاصاً برصاص، الحشرجات اختلطت بالدمدمات والصراخ بالصفير، ومثلما ظهر المقاومون قفزاً ومباغتة اختفوا لتظهر عربة مستشفى الميدان ويهبط منها حاملو النقالات. وفيما هم منهمكون فى حمل الجثث هبطت قذيفة هاون فوقهم بالتمام فتطايرت أشلاؤهم هم والجثث والنقالات وصاج السيارة وإطارتها وكُوَرُ النيران، والبنت لم تفعل أكثر من أنها غمزت لنفسها إعجاباً بعقصة الشعر التى أظهرتْ جمال عنقها وبهاء قرطيها.
وفي الأعالى تقاطعتْ أدخنة النفاثات، ودمدمتْ أصوات تخطى حواجز الصوت، وأَطلقتْ أسراب القاذفات صواريخَها على العمارات البعيدة فحطمتها، وألقتْ بحمولات النابالم على العمارات الأبعد فأشعلتها، وحملتْ الريحُ شُهبَ النيران وعبرتْ بها فوق رأس البنت، والبنتُ تُكمل زينتها وتضع باهتمام البودرة أسفل عينيها، والآى شادو فوق جفنيها.
بحذر انبثقت من خلف التلة القريبة من البنتِ ثلةٌ من الجنود. أجهزة الإشارة تحنى ظهورَهم، ولفاتٌ من الأسلاك الثقيلة تتدلى من أكتافهم وسواعدهم. بسرعة الأرانب يتقافزون. يتوقفون ريثما يفردون الأسلاك ويثبتونها ثم يفرون. حول الركام الذى تعلوه البنت التفوا، والبنت انتهتْ من وضع الماسكرا فوق رموشها وبدأت بالكاد فى استخدام الآى لاينر. حاملو أجهزة الإشارة ارتكزوا على ركبهم بالقرب من البنت وفى سماعات تليفونات الميدان أخذوا يصرخون، ومثلما ظهروا اختفوا بسرعةِ وخفةِ الأرانب.
ظهر ضابطٌ كبيرٌ فوق الركام المواجه للركام الذى تجلس فوقه البنت. وضع منظارالميدان فوق عينيه. تطلع يُمنة ويُسرة، ثم أشار باتجاه اليسار فاتجهت إلى حيث أشار طوابيرٌ من المشاة مكتملة التسليح. بخطى منتظمة وزوماتٍ منغمة يمشون. خلفهم رتلٌ من عربات الإمداد والتموين.. ذخائر وطعام وفرن ميدانى وفِنطاسا ماءٍ ووقود.. وقططٌ ضامرةٌ وكلابٌ متسخة، نسيتْ عداءاتها وتبعت ـ مهطعة رؤوسها ـ رتلَ العربات. المشاة يحاولون تفادى الارتطام بأشلاء القتلى والوخوذاتِ والداناتِ التي لم تنفجر، فتتعرج الطوابير، ويتعرج الرتل، وتترنح أرجل القطط والكلاب.
فى اللحظة التى أخذتْ البنت تتأمل فيها تأثير الخطين الأسودين الرفيعين، المائلين إلى الأعلى، على جمال عينيها؛ كانت الطوابير قد عادتْ هرولة ورصاص المقاومين يشتتها، وفيما يتساقط الجنود ويختلطون بالحطام والأشلاء الممزقة، تشبثَ جريحٌ بالركام الذى تجلس فوقه البنت، وجاهد ليصعد فوق أحجاره وأخشابه، وكاد يلمس المسطح الذى ترتكز عليه قدما البنت لولا زَخَّات الرصاص التى ثقبت ظهره، ليتدحرج إلى سفح التلة فتهرسه عجلات سيارة فزعة. عندئذ أمسكت البنت بقلم الروج ووضعته بالكاد فوق إحدى شفتيها.
بالمظليين بَذرتْ الطائراتُ قبة السماء، فصعد المقاومون أكوام الركام ونصبوا مدافع المورتر وأطلقوها عليهم. أكثر من مقاوم اعتلى حواف الركام الذى تجلس فوقه البنت الجميلة، ومن أوضاع الوقوف والارتكاز والجلوس والرقود أطلقوا رصاصهم باتجاه المظلات التى بدت قناديل بحر هائجة فى خليج مائج بالأحمر والبرتقالى والأسود الدخانى. وإذ يلملم الناجون من الهابطين حبال مظلاتهم هرول إليهم المقاومون بالرصاص والسناكى، متعثرين بالأخشاب والأحجار والجثث يهرولون، وبكل ما تطوله أياديهم غير الرصاص والسناكى راحوا يُذَبِّحُونهم. والبنتُ أمسكتْ، بعدما انتهت من طلاء شفتيها بالأحمر الدامى، بقلم تحديد الشفاة ومالت برأسها أكثر باتجاه المرآة ليكون التحديد أحكم وأدق .
صاح المقاومون وهللوا لمَّا أجهزوا على المظليين. وفيما أعطتْ البنتُ كل اهتمامها لطرف إصبعها الذى تمسح به ما شذ من الخط الذى رسمته بقلم التحديد، ظهرت من كل الأجناب أرتال لا نهاية لها من المدرعات وحاملات الجنودِ والصواريخ وقاذفات اللهب، وتجمعتْ فلولُ المقاومين واحتشدتْ فوق وأسفل وإلى أجناب أكوام الركام.
طيورُ الخرائب بعضها نعقَ وبعضها سكتَ وتَنَصَّتَ. فى لحظة الهدوء المتوتر هذه كانت البنت الجميلة قد انتهت من كامل زينتها، وكانت الموسيقى المنبعثة من الراديو الترانزستور قد استحالت إلى نغمة كمان رقيقة طافتْ فوق المشهد كله. ببطء فتحتْ أدراجَ المجوهرات وأخذتْ تبحثُ عما يليق بهندامها. قلَّبتْ فيها دُرجاً بعد درج حتى عثرتْ على الطقم المكتمل الذى ترتضيه. طقمٌ ذهبىٌ مُطَعَّمٌ بالألماس. استبدلتْ قُرطيه بالقُرطين المتدليين من أذنيها، وأحاطتْ عنقهَا بالقلادة وثبتتْ البروش على صدرها، ثم وضعتْ الإسورة والأونْسِيَل فى رسغيها والخواتم فى أصابعها.
هى الآن أكثر جمالاً وبريقاً. دَسَّتْ القُرطين المخلوعين فى الدُرج الذي يخصهما وبتؤدة أعادتْ قفل الأدراج. برشاقةٍ تناولتْ البرفان ووضعتْ نِقاطاً محسوبة فى مواضعٍ محسوبة، ثم رشت اسبراى الكولونيا على عموم ما ترتديه. بعدها نهضتْ وسَوَّتْ جوبتها، وشدَّتْ قوامَها، وأرسلتْ قُبلةً على أطراف أصابعها إلى صورتها المطبوعةِ على المرآة. وللمرةِ الأولى تستدير إلى الفوهات المتقابلة والخراب المحيط، وبمهلٍ شديد بدأتْ تتجمع على شفتيها ابتسامةٌ تجمع بين الشر والطيبة.. ابتسامةٌ راحتْ تتسع وتتسع وتتسع.. تتسع وتتسع.. تتسع .لماذا لم يرتج الموقع بقذائف العدو؟ شيء ما غير عادي حدث داخل الخندق. الجنود متسخو الوجوه والأيدي والأفرولات انتفضوا مشدوهين. وَهْمٌ ما يرونه أم حقيقة؟! يبدو أنه حقيقة.. لا.. لا يمكن أن يكون وهْمَاً. ليستْ بلادة تلك التي أصابتهم، لكنه الاندهاش. هو الاندهاش الذي أنهضهم وأجحظ عيونهم وشدها إلى حيث أسلمتْ الفنانات المبهجات المبتهجات أياديهن للضباط لمساعدتهن على الهبوط إلى داخل الخندق. من فرط اللهفة في الالتفات ارتطمتْ خوذتان، إلا أن ضحكاتهن علتْ على طرقعة المعدن. من فورهم عرفوهن.. “ريم” النجمة المتألقة على شاشتي السينما والتليفزيون، هي بوجهها النضر وعينيها البريئتين وشفتيها اللتين إنْ فتحتهما لأي بطل أسكرته. و”ميريت” الراقصة التي طالما انطرحتْ أبصارهم فوق فخذيها وردفيها ووركيها، هي التي أعطتْ العيون سُرَّتها فتزاحمتْ للانغراز فيها، ومنحتها نهديها فتزلجت فرحة فوقها.. و”وهيبة”، نعم وهيبة، المطربة التي تيمهم صوتها الرخيم، وشغفهم بها عشقاً.. و”زمردة” فنانة المسرح التي تجيد الولولة والنحيب، إنها تضحك مقهقهة وهي تلم فستانها على فخذيها حتى لا يُطَيِّر الهواء أطرافه. أتكون هذه النحيلة هي “لؤلؤة” ؟.. نعم يا لئيم يا بن اللئيمة.. هي بعينها “لؤلؤة”، المونولوجست خفيفة الظل سليطة اللسان؟.. نعم.. نعم.. أية مفاجأة.. أي عيد!!.. فساتينهن المبهجة أداختهم، فتصايحوا وصخبوا، ونطقوا بأسمائهن بكل ما في الدنيا من تهتك ورعونة. وعلى الرغم من أنهن كن قريبات جداً منهم، وأنه من البادي منذ الوهلة الأولى أنهن سيمررن عليهم في مواقعهم، فقد انهمكوا في التلويح لهن، كُُلٌّ يريد أن يلفت أنظارهن إليه، بل إن منهم من ترك موقعه وأقبل عليهن ليتشمم روائحهن ويتملى أكثر من جمالهن. الجنون أصاب الجميع.. الضباط الذين حاولوا التماسك، وصف الضباط والجنود الذين انفلتوا تماماً وخرجوا على قواعد الضبط والربط.. إلا هو.. ذلك الذي ظل إلى جوار “الجرينوف” معتمراً خوذته حاكاً شعيرات ذقنه. كان قريباً جداً من زحام الفنانات والجنود، لكنه ظل في مكانه مكتفياً بالتطلع إليهم والاستماع إلى صيحاتهم المجنونة، وصخب الضباط إذ يهتفون بهم ـ ربما لتأجيل جيشانهم وربما لإشعاله أكثر ـ “الليلة فانتازية”..”الليلة غناء ورقص وتمثيل”.. “الليلة ليلة العمر”. كان يمكن أن يظل الحال على ما هو عليه لولا أن التقت ـ بعفوية ـ عينا “ريم” بعيني الواقف إلى جوار الجرينوف فانجذبتا. برشاقة تخلصتْ من الزحام واتجهتْ إليه. هو أيضاً انجذب إليها، لكنه ظل في مكانه. لم يفعل أكثر من ضبط وقفته ليكون في مواجهتها بالتمام. “ريم” لم تتكلم. فقط مدت كفها الملساء وسلمت عليه، وحدث شيء، غير عادي ربما، أبقت كفها في كفه حتى أفرج عنها. لحظتها سكن الضجيج تماماً، والتفت الجميع نحوهما.. الفنانات والضباط وصف الضباط والجنود.. وران صمتٌ له ملمس المخمل على المشهد كله. هُم في جزء من الخندق وأمامهم “ريم” والجندي المتسخ ناتئ الذقن ومدفع الجرينوف. مَنَّ الله عليها فتكلمتْ: “إزيــــــــك؟” “الـحــمـد لله.” “عـامـل إيه؟” “كــل خـيـر.” مثل الآخرين بدأ يرتجف، لكنه تماسك. طافتْ عيناها بأوراق الخروع المثبتة فوق خوذته وتوقفتا عند الجرح البسيط الذي يشق أحد حاجبيه. استهوتها لمعة عينيه، لكنها فرت منها إلى اللطخات السوداء والبنية من أثر السحجات والجروح التي اندملت، وإلى القشف الذي أحدثه البرد في أذنيه وأسفل ذقنه حتى رقبته. رأتْ اسبلايت الأفرول مُدلى من أحد كتفيه، وبان لها فتقٌ تحت الإبط، فاقتربت منه أكثر حتى ظن الناظرون أنها ستقبله، لكنها فقط مدتْ إصبعاً أدخلتْ به الخيوط المشرشبة داخل الفتق، وبكفيها أمسكتْ بالاسبلايت وأعادتْ زره وتسويته، ثم أعطته ما كان ينتظره الجميع، لثمة يسيرة بسيطة طبعتها على أحد خديه لينفتق الصمتُ المخملي عن “هـــــــااااا” طويلة فرحة ومشجعة، وتصفيقات من الأكف المحتشدة أمامهما فيستيقظ الجندي من غيبوبته.. يده على الخد الذي نال اللثمة ، والعينان بالكاد تدركان أنَّ ما حدث حقيقة وليس خيالاًً أو وهماً. أما “ريم” فقد التقطتْ شفتاها القرمزيتان من خده بعضاً من تراب بدا أنها لم تشعر به.
قبل أن يهجموا عليهما كان قد أدخل يده في جيبه وأخرج لها شيئاً بدا من تعابير وجهه أنه عزيز عليه.. سلسلة مفاتيح تتأرجح فيها شظية..”أخرجوها من كتفي”.. لم يقل أكثر من هذا وهو يقدمها لها. حارتْ أي شيء تقدمه له.. ليس معها سوى نقود، وتقديمها له لا شك سيجرحه.. عبثتْ بحقيبة يدها فتعثرتْ أصابعها في أدوات الزينة.. أقلام الروج والتحديد وزجاجة الآي لاينر وحُق الآي شادو والملقاط والمقص. كان يجب أن تحضر معها عدداً من صورها لتهديه إحداها وتوزع الباقي على الآخرين.. هي تفعل هذا في كثير من المناسبات فلماذا نسيتها هذه المرة؟.. توقفتْ أصابعها عند شيء. أخرجته بسرعة وقدمته له.. مرآة.
فرح بها كثيراً، فما من واحد من هؤلاء الشُعث الغُبر، الذين يقاسمونه هذا الخندق يمتلك مرآة. داس الجنود على الانضباط ودواعي الأمن، ونسوا العدو المتربص وراء التباب المواجهة، وهجموا عليه ورفعوه، وقذفوا به هو ومرآته في الهواء، فيما عادتْ “ريم” إلى صويحباتها والشظية في قبضتها. قالتْ لهن:
“معايا شظية”. ومن أعلى الجميع.. من الهواء المقذوف إليه صرخ: “معانا مراية”. وأسقطتْ الشمسُ شعاعاً احتضنته المرآة والتمعتْ به. ومن المدهش أن المكان لم يرتج بقذائف العدو.ربما هذا ما قاله ابنى أمام المرآة سأتركُ زوجتي وابني الذي أخرجه الطبيبُ مبتسراً في شهرهِ الثامن. ابني الذي استلمته من حَضَّانة المستشفى ووزنه كيلوجرامين اثنين. سأتركُهُ وأتركُ بيتي وعملي المضني ومقهى الأصدقاء. قد أَمُرُّ على أبي وأمي وأخوتي وقد لا أمر. سأتركهم بوداعٍ أو بغير وداع وأذهبُ إلى الفرقةِ الرابعةِ مدرعات. إلى الحرب. وداعاً للمتعِ التي تعودتُ عليها وللمقهى والإنترنيت وقمصاني رائقةِ الألوان. كل هذا سأُنـَحِّيه جانباً ولن أصحب معي سوى مرضِ السكر الذي داهمني بَغْتة. سأذهبُ إلى المجنزرةِ التي لازمتني فترة تجنيدي، وإلى المعسكرِ الذي لفظني برغبته، ثم ها هو يستعيدني رغماً عني، لأهتف في طابورِ التمام ” تحيا جمهورية مصر العربية”.
بواسطة admin • 04-نصوص قصصية • 0 • الوسوم : العدد الثامن والعشرون, قاسم مسعد عليوة