الوضعية العلمية والنقد الأدبي …. د. حبيب مؤنسي

الوضعية العلمية والنقد الأدبي

نقد الموضوعية العلمية في المناهج الأدبية

المنهج الاجتماعي نموذجاً

_________________

د. حبيب مؤنسي *

1- الوضعية وهاجس الموضوعية العلمية :

يجد الدارس تلازماً معرفياً بين الموضوعية كأدعاء حافل بالتجرد والالتزام وبين الوضعية كرؤية علمانية ، تصوغ لنفسها الوجود والعالم وفق إدراك حاد قائم علي الملاحظة والتجريب وصياغة القوانين، وكأنها عندما تبلغ عتبة التقنين والوجود نستعد – بعد صياغة القوانين – إلي تجاوز القائم حتي نقدم العالم في سلسلة من القوانين المنتهية التي تم تعليبها سلفاً ، وهي إذ تفعل ذلك تنفي عن ساحتها كل ذاتية وتلحق بها كل نقيصة وقد شاع مصطلح الموضوعية العلمية ، وذاع وكأنه يحوي في ذاته إقصاء للذات الفاعلة وتجاوزها إلي صنيعها وإبداعها مباشرة وكلما تراجعت الذات وراء المطلب الموضوعي ، ورضيت بأن المعرفة عارية من كل روح فردي حققت الوضعية مثلها البعيد وتراجعت الفردية لتحصر كقيمة متحولة في الفن وحده .

لقد حدد فيبر M. WEBER  خاصتين للعلم يتم من خلالها بناء الفصل الحاسم بين العلم والفن وقد كان لهما الشأن الكبير عند تابعيه ذلك أنه يري للعلم شرطين : العلم غير منته خاضع لتطور مستمر دون الوصول إلي الكمال والعلم ينشد الموضوعية ويسعي إلي التحرر من الذاتية وأحكام القيمة (1) .

تستند الخاصية الأولي إلي أن الإنجاز المعرفي في تنام مطرد لا يعوق مسيرته البحث في الغايات المطلقة التي أثقلت كاهل التفكير الفلسفي التقليدي وإنما ديدنه التجدد باستمرار ويقوم في التطور علي مبدأ الاستمرار ، والاستثمار ، خلاف التفكير الفلسفي الذي يراوح  مكانة في كل المحاولات الفردية التي تسمه بالتراكم ، كما أن شرط الموضوعية يجنب العلم الخوض في أحكام القيمة وتلونها بما يضمن له ” الصدق ” وهو المطلب الذي جعلته الوضعية عنوان معرفتها في جميع الفروع التي أجرت فيها المنهج العلمي ، ما دام العلم في أبسط تعاريفه – عندها – كونه النشاط العقلي الهادف إلي صياغة أحكام واقعية ذات صدق عام ، وهي في ذلك لا تري للصدق من قيمة وإنما هو – عندها – مطابقة النتائج للوقائع وحسب . وإذا أعدنا النظر في التعريف ، ألفينا النشاط العقلي يتوقف عند صياغة الأحكام التي تكون نتيجة التفسير واكتشاف القضايا العامة  ، فالنشاط العقلي هو المرجع الأول في المعرفة وسبيله الفهم بيد أن مقوله ، الفهم لا تصح بهذا الإطلاق الوضعي ما دامت العلوم ليست واحدة وإنما اختلافها وباختلاف مواضيع ، فلا يكون الفهم واحداً في هذه وتلك ، لأن العلوم الطبيعية علوم خارجية EXTERNE ، تجريبية ، كمية ، فهي مدركة بالحواس ، أما الإنسانية فهي  معارف داخلية INTERNE  تتجسد في الخبرات البشرية فهي تدرك بالحدس وشتان بين السبيلين في عملية الفهم ، بل يظل  الفهم سبيلاً نسقيا يتخلل المحاولات الإدراكية لإنشاء المعرفة .

يبدو أن أشركنا مصطلحين ومتقابلين في الإدراك البشري ، لا تنكشف الفروق بينهما إلا من خلال تلمس الفروق القائمة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية .

فإذا حاولنا تمييز الحاصل منهما كان الأول وو” معرفة ” Savoir  وكان الثاني فهما Comprehension  ذلك أن السبيل الموصلة  إلي المعرفة (العلم) هي في خواص المنهج المتبع والتأكيد علي :

  • المادة قابلة للقياس .
  • إقامة الارتباطات الإحصائية .
  • استخدام الصيغ الرياضية في التعبير وتحديد مدي دلالتها (2) .

ويتبدي فيها لون المقاربة الخالية من كل تماهي عاطفي ، الأمر الذي يضمن والموضوعية الكافية لنقاء الناتج وقابليته لأن يكون قانوناً منتهياً في ذلك الجزء من المعرفة .

ويقوم السبيل الموصول إلي الفهم علي الخصائص التالية : تطوير الفكرة عن الموضوع أو الظاهرة من خلال تصور ذاته داخلاً في الموضوع أو جزءاً منه
( تماهي عاطفي ) .

جعل التفسير أو التأويل التعاطفي قنطرة تصل بينه وبين الآخرين ، إدراك المعني عن طريق نوع من الخبرة الحدسية Experience Intuitive     (3) .

كم هناك ، كيف هنا ، وفيهما يتجمد الفرق الجوهري في المطلب وفي السبيل الموصل إليهما ، وإذا فهمت هذه الفروق وأكدت الدراسات خصوصية وتتراجع معه الخطوات المنهجية القسرية التي أجريت علي الفنون الأدبية بالأمس واليوم وقد يصعب عليها – في هذا المقال – مراجعة أثرها السيئ في الأدب والنقد – تأخذ نتائجها سريعاً في المنهج التاريخي – علي سبيل التمثيل – لتأكيد مسعاناً في هذه القراءة .

2- النقد وعلم الاجتماع :

يتحتم علينا قبل البدء ونحن نعالج الوضعية العلمية ، في التفكير النقدي أن نشير إلي أن المشروع التاريخي عند لاتسون كان يشير إلي ضرورة قيام ” الفريق القارئ ، الذي يتحامي الظاهرة من جميع أقطارها قصد الوصف والتفسير ولم تتحقق هذه الصورة إلا في بعض الدراسات السيوسيولوجية الحديثة انطلاقاً من برامج تتجاوز حدود الاقتدار الفردي .

فإذا كان المنهج التاريخي يعني بالزمن وصيروته وتوالي الأحداث فيه فإن المنهج الاجتماعي يعني بالمكان ومشكلاته الاجتماعية والبيئية ، وبذلك يكون التصور الاجتماعي تكملة للتصور التاريخي الذي رسمه لانسون بيد أن المكان الواقع لا يقدم ذاته في بساطة عناصره ، وإنما يغدوة مقولة فلسفية تتأسس عليها كثير من الرؤي الخاصة في الإطار المادي والمثالي ، وكل إدراك للواقع من هذه المشكاة أو تلك يكسبه سمات خاصة ذات تأثير بليغ في تشكيل الرؤية الإبداعية التابعة منه .

لقد جعلت المثالية الواقع ، تصوراً ذهنياً خاصاً ، متعدداً منحصراًَ في الذات لا يبرحها إلي خارجها ،  ما دام الفرد يدرك الكون من واقع الصورة المرتسمة عنه في ذهنه ، لا من واقع كيانه الحقيقي : ( فإنه سيدركه إدراكاً ذاتياً لا موضوعياً أي : سيدركه بحسب ما يراه هو لا بحسب حقيقته الواقعية ، وفي هذه الحالة سيكون حكمه علي ظواهره ، وكل مشكلة من مشكلاته مبنياً علي صورها الممثلة في ذهنه ، المكيفة بأهوائه الذاتية ، ومصالحه الخاصة ، بل إنه في هذه الحالة لن يفهم الواقع الفعلي ومشكلاته مجتمعه وسينطوي وعلي نفسه وينشغل بها ، ويصبح أنانياً انعزالياً (4) ، وفي مقابل ذلك يكون المطلب المادي (الواقعي) التزاماً واعياً بالواقع وإقراراته  المختلفة لأن الواقع يشكل الإنسان وفكره ويوجه إلي مستقبله وينبت مضامين فنه وأدبه عارضاً النماذج البشرية الحية المتصارعة وسابراً لأغوارها مدركاً لعللها ما دام الأدب وسيلة اجتماعية يناط بها كشف ميكانزمات التطور ، الكامنة في المجتمع وبذلك يكون الأدب طرفاً حياً في معادلة التطور مهمتهت الفهم ، والتوجيه والانتقال من الكائن إلي الممكن الذي نصبو إليه الجماعة .

لقد أوحي هذا الوضع باعتبار المؤلف الفرد ، طرفاً منجزاً Executants  ينوب عن الجماعة في إخراج الأثر إلي الوجود ، كما اعتبر الأثر من جهة أخري حاملاً لخطاب النخبة الموجهة في المجتمع والتي لا تلتزم بأوهام الفرد ومشاغله بل يعلل المجتمع وكشفها أمماً أجهزة الإصلاح ولهذا السبب نعت الادب الواقعي الاجتماعي أدباً متفائلاً في شقه الاشتراكي ، عكس ما حقلت به صفحات الأدب المثالي من تشاؤم وانطواء وغموض – فالفن والأدب – إذن – يصدران عن تنظيم اجتماعي معين ولا عن نظام مطلق يصلح لسائر المجتمعات ، ويخضع لتطور هذا المجتمع المعين فلا يجمد عند مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي (5) ، ويسبغ التنظيم علي الفن والأدب قسطاً وافراً من الانسجام الذي يعتبره النقد الاجتماعي مبعثاً للإحساس بالجمال ويري في غيابه الفوضي والقبح .

إن ارتباط الأدب بالتنظيم الاجتماعي ، جعل هذا الأخير – كما قال لانسون من قبل – قوة منظمة ، تتمتع بقدر كبير من التأثير في الواقع وفي تحديد وجهاته المستقبلية ، واستمرار الأفكار التي تتقصد عن الواقع في خضم المطالب الحياتية الجديدة ، لقد واجه الأدب الواقعي والاشتراكي تطور المجتمع في شقيه : المدني ، والحضري ، وبروز الأفكار المتناقضة التي خلفتها الأزمات المستجدة في الصناعة ، والتجارة ، والسياسة ، وكان عليه – في كل الأحوال – استيعابها وفحصها ، ثم الوقوف منها موقفاً صريحاً ، يجسد الإدارة الجماعية في ذلك الموقف .

وحاول التنظير الواقعي والاشتراكي علي صعيد واحد تبرير التزام الأدب واهتمامه بواقع الناس ، فجدد مفاهيم الفن والابداع والجمال والقيم حتي تتلائم مع المطلب الجديد للتفكير الفني والأدبي الذي سعي إلي تعميم تصوراته ، ما دام يري أن  ليس هناك أدب أو فن ملتزم ، وأدب وفن غير ملتزم .. فكل أدب ، وكل فن يتضمن رأياً ، وحكماً ،وموقفاً .. وسواء أراد الفنان ذلك أم لم يرده ، سواء أكان واعياً أو غير واع ، هو فدان ملتزم (6) .

فكل فكرة يقيمها الأديب ويجسدها في رؤية معينة ، تعد التزاماً فكرياً أو فدياً من قبله ، نعبر عن موقف اختص به ، حتي وإن سعي إليه من خلاف تلافيف الغموض والتجريد لأن الحيثية التي يستند إليها إنما تمثل ثقافة الطبقة التي ينتمي إليها انتماء إذعان وقبول ، أو انتماء رفض وتجاوز فهي جماع مكونات عناصره الحياتية بل لقد عمل هذا الاعتراف الأخير علي رفع الذاتية قليلاً في وجه المطلب العلمي ، حين رأي أن الفنان : ” خليط معقد بين الذات والموضوع ذاتية الفنان وموضوعية أدواته وخبراته وملابسات حياته (7) ، فلا يفهم من المؤلف الجماعي إلا الصورة المجازية لوحدة المطلب الفني والجمالي عند الجماعة الخاصة ، فأصالة الذاتية في هذا الموقف هي التي تعمل علي إخراج الصنيع في الصورة التي يرضاها الكل ، وهو اعتراف ضعيف الصوت واهي الحجة ، أمام تعنت التوجيه الإيديولوجي النخبوي لذلك يصر غولدمان Goldman  علي أننا لا نستطيع فهم الصنيع الأدبي من المكتوب فقط (النص) ، بل يجنح إلي مفهوم جديد يسميه رؤية العالم ويعتبره المبدأ العلمي الذي يربط بطريقة مفهومة الأثر والفرد والجماعة والذي يكون أساس كل تفسير ثقافي ، ذلك لأنه مجموع التوجهات والمشاعر والأفكار التي توحد عناصر الجماعة أو الطبقة في مقابل الجماعات الأخري (8) .

لقد سعي التحليل التكويني عند غولدمان أولاً إلي كشف رؤية العالم داخل النص وقد سمي غولدمان هذه الخطوة في تحليله بالفهم ، أو الدراسة الفينومتولوجية ، والتي تظل دون معني حتي تتعزز بالتفسير أو بالدراسة التكوينية ، وهي خطوة وإن كانت تنطلق من النص (المكتوب) إلا أنها تقع خارجه ، مستعينة بكل المعارف التي تؤسس شروط الفهم ، والتي تكفل للدراس حصر السيمات المشتركة للرؤية عند جماعة ما ، ذلك ما أشار إليه غولدمان قبلا ، من أن المكتوب لا يفسر الصنيع الأدبي ما دامت الحمولة الاجتماعية والإيديولوجية تقع خارجه ، ثم أتبع الرؤية بالدراسة التكوينية التي تقتضي سلفاً إدراج البنيات الصغري في أخري أكبر منها ،وهكذا حتي نبلغ أشمل وأوسع هي رؤية العالم أو الأيديولوجيا في أشمل صورها ، ويقول غولدمان وأن الكشف عن بنية دالة يشكل سياق الفهم Processes de Comprehension  أما إدماجها في بنية أخري أوسع منها ، فإنه يشكل سياق التفسير Processus  de’explication  لذلك كان التفسير التكويني تأويلاً بنيوياً يسعي غلي وضع البنيات في علاقة مع بنيات الجماعة التي تمثل تعبيرها المتناسق ، وفي هذا يكون غولدمان مخلصاً لاعتقاد لوكانش في أن الخلق الفني يهدف إلي تشكيل بنيته مجانسة للبنية الأساسية للواقع الاجتماعي الذي شهد ميلاد الأثر (10) ، إن ما يقترحه علينا غولدمان من خلال الفهم / التفسير – هو إحداث مجموعات إستثنائية للكتابات والتي من خلالها نبحث في الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لحقبة ، لجماعات اجتماعية مبدئية والتي نستطيع أن ندمج فيها جزئها آثاراً مدروسة مقيمين بينها جملة من العلاقات الواضحة والمطابقات في الحالات الملائمة ، ولا يتواني غولدمان عن التصريح قائلاً إن الفاعلين الحقيقييين للإبداع هم المجموعات الاجتماعية ، وليس الأفراد المعزولين (11) ، وكان هناك علاقة خفية بين تراجع الشخصية في الرواية منذ القرن التاسع عشر إلي اليوم ، وتراجع الشخصية علي المستوي الاجتماعي ثم اختفاؤها تدريجياً لقد أفصح هذا الحدس لدي الكتاب عن تحول .

لقد أفصح هذا الحدس لدي الكتاب عن تحول خطير في طرائق إدراك العالم ، وفي تفسير العلاقات القائمة فيه بين الأفراد ، وعندما سجل الروائيون هيمنة الإيديولوجي علي القيم التقليدية لاحظوا تلاشي الفرد وذوبانه إلي غاية ظهور رواية غياب الذات التي تحركت أحداثها من دون الفاعلين الفعليين ، وكأن الأحداث التافهة تتولي قيادة الآلة الإنسانية عبر دروب المصادفة والحظوظ ، لقد أدرك غولدمان أن تحلية التكويني السوسيولوجي لا يزعم استيفاء الأثر الأدبي في كليته ( داخلياً وخارجياً) ولكن هم الفهم أن يبرز العلاقة بين رؤية العالم وعالم الأشخاص وهم التفسير إبراز العلاقات بين هذا العالم وبين الوسائل التقنية والأدبية التي أختارها والمؤلف للتعبير عنه ويدرك كذلك أن سياق الفهم ، وسياق التفسير يستفيدان من كل المعارف الحديثة المتاحة والتي بإمكانها تقديم حلول جديدة لمشاكل الدلالة ، واللغة والمعني وتفسير التلاحم داخل العمل الفني في جملته ما دام التلاحم وهو عين الرؤية للعالم التي نجدها في كل من الدين ، والفلسفة ومظاهر الحياة اليومية ، وهي بذلك إن حددت قيمة الأثر الفني فإنها تقع خارجه ، عكس التلاحم الذي يراه بارت في الشكل الذي يسمح يتسرب البعد المتعالي  للغة الأدبية المشكلة للمعني الجوهري ، وعكس ما يراه مورون في التلاحم العاطفي غير الواعي يتحدد الأثر الأدبي والفلسفي عند غولدمان بأقصي استيعابه للوعي الممكن ، والذي تفرزه رؤية العالم لدي جماعة كائنة ، وفي حالة من الغموض عدد كل واحد من أفرادها ، ذلك لأن المبدع الحق هو الذي يستطيع خلق عالم متجانس وتوافق بينته ما تصبو إليه الجماعة ، ولا يكون الأثر جيداً أو رديئاً إلا بمقدار قريه أو بعده من تحقيق هذه الرؤية .

وقد التفت الدرس السيوسيولوجي مع روبير إسكاربيت إلي جملة المتحكمات التي تعتور الصنيع الادبي من ساعة قيامه فكرة في خلد صاحبه إلي شكله مطبوعاً ومقروءاً عند ألوان متعددة من الجماهير القارئة ، في ألوان من البيئات ذات التمايز الفكري والإيديولوجي ، ما دام : وجود أفراد مبدعين يطرح مشاكل في التأويل النفساني والأخلاقي والفلسفي كما تطرح الآثار نفسها مشاكل جمالية وأسلوبية ولغوية ونقدية ، أما وجود جماعة الجمهور فنطرح مشاكل ذات طابع تاريخي وسياسي واجتماعي واقتصادي أيضاً هناك علي الأقل ثلاثة آلاف طريقة لارتياد الحدث الأدبي ودراسته(12) .

لقد غدا الأثر الأدبي ظاهرة تزداد خطورة كلما إزداد تمدد الجبهات التي يواجهها الدرس السوسيولوجي بغية الإحاطة بالظاهرة من جميع جوانبها حتي يتسني له تجديد القول في مفاهيم ظلت عامضة من قبل كالكتابة والقراءة والأثر والوسيط والواقع حينما تنظر وإليه طرفاً في معادلة الإبداع الفني عموماً إذ هو في جملته : ” ليس إلا محصلة لجميع العلاقات المتشابكة بين الذات والموضوع لا الماضية فحسب وإنما المستقبلية أيضاً ولا ينحصر في الأحداث الخارجية وحدها ، وإنما يشمل أيضاً التجارب الذاتية والأحلام والنبؤءات ، والعواطف والأخيلة (13) ، وبذلك تتبدي صعوبة المسلك الجديد الذي تخوضه اجتماعية الأدب في صراعها المرير مع الصنيع الأدبي في رحلته من واقع إنشائه فما إلي واقع استهلاكه لذة ومتعة .

3- نقد المنهج الاجتماعي :

إننا ندرك جيداً أننا في حديثنا من المنهج بشقيه الاشتراكي والنقدي أوصلناه بجهدي غولدمات الماركسي وإسكاربين السوسيولوجي لوحدة المسعي في كل نشاط لذلك بدأ المشرع السوسيولوجي مطلباً ضخماً يتحدد بصرامة موضوعية تستند إلي معطيات العلوم الإنسانية في فروعها المختلفة ، إلا أن التوجه الإيديولوجي – في كل مسعي – يحدد المطلب النهائي ، ويضفي علي المصطلحات والمفاهيم دلالات تظل مشبعة بالحيثيات التي أفرزتها ، ومن هنا كان الفهم – في كل محاولة – مؤطراً بلون خاص من ألوان التفكير الفردي والجماعي .

إن ضخامة المطلب الاجتماعي من لانسون إلي إسكاربيت يؤكد مرة أخري علي تجاوز الجهد الفذ إلي الإنشاء الجماعي الموجه ، وفق مشروع قد يستغرق حياة أصحابه ، وقد كانت محاولات جاك لنهارت في تجاوز حدود الوطن ( إلي المعسكر الشرقي ) وتسجيل الفروق القرآئية عند هؤلاء وهؤلاء ، وما يمليه اتلسياسي والأيديولوجي علي الذات القارئة ثم إفراغ ذلك كله في تصنيف دقيق يضم أنساق القراءة إلي أنماطها (14) ، عملاً رائداً سجل نتائج خصبة مع أن الفريق يعترف أن جهدهم لا يشغل إلا حيزاً صغيراً داخل المطلب السوسيولوجي في كليته ، وكلما اتسع الحقل وتعددت تشعباته كلما كانت الهيئات تلحق هذا الجهد ونحاول وإجمالها في الملاحظات التالية .

الفكر واقع :

كلما اعتورت الواقع تلقبات تشدد وتضيق ، وجدت في الصنيع الفني والأدبي الذي هو إفرازها – انعكاساً يطوعها لاحتواء شكل الواقع واهتماماته وتصيد العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع أحال الجهد الاجتماعي علي الشرح الميكانيكي الجاهز الذي تردد في العديد من الأعمال وخص الكتابات النقدية بوتيرة واحدة لا تخطئها الأذن .

جبرية الواقع :

إذ كان الفكر تابعاً للواقع ونابعاً منه فلسفياً ، فإن الفهم الوضعي أعطي لعناصر الواقع المادية سلطة علي الاذت ، وألزوها جملة من السلوكيات والأخلاق والأذواق وجعلها تابعة له ، ونتحرك نحو المستقبل وفق اقتضاءاته الخاصة ، ذلك ما جعل الفحص السوسيولوجي يقوم علي تتبع النشاطات العملية في النصوص فكلما كان النص حافلاً بها كان جديراً بالملاحظة والمتابعة ونبذ كل نشاط يحتفل بالذاتية والخيال والتأمل ووسمه بالانطواء والمرض الاجتماعي .

الأدب وسيلة :

لقد حدد المطلب الاجتماعي وظيفة الأدب وأناط به قيمة فلسفيبة وجودية فكان الإلتزام في أبسط صورة متابعة للواقع والمجتمع ووترجمة عنه لا يرتفع بعيداً عن سمائه وكان الالتزام في أعقد مفهومه موقفاً من العالم تمليه والمصالح الآنية والبعيدة في المشروع الوجودي المشايع للفهم الماركسي ، لقد كان في ربط الأدب بالوسيلة  . قصر الاهتمام عن صميم والأدبية وتجاهل الخيال الحافل في كل إنجاز وانشغال عن الذاتية القائمة وراء كل أثر .

الأدب صراع :

لا تكتسب الفكرة اصالتها إلا إذا قامت علي مبدأ الصراع الطبقي أولاً وعلي الصراعات الشخصية الأخري ما دام التحول الذي يحدد المجتمع يقوم – هو الآخر – علي الصراع شأنه في ذلك شأن التاريخ ، كما أن التطور الذي يشهده الادب والفن لا يند عن هذا التفسير ويكون تعارض أشكال الأدب وأنواعه حاسماً في تطوره وتجدده .

واحدية الناتج :

لقد ردد الدرس الاجتماعي والاشتراكي عين المقولات وشهدت الكتابات أنماطا ً متقاربة في الصباغة والنتائج وكأن المحالاوت الأولي قد قدمت القول الفصل المنتهي لذلك لم يكتب النقد الاجتماعي إلا نصاً واحداً بطرق شتي ، يدلون فيها المضمون ولا يتحول حاملاً  نغمة البيان السياسي الذي تدور فيه الألفاظ مدارات خاصة بها وكأنها تنتمي إلي لغة تبتعد كثيراً عن لغة الأدب .

الشرح والحكم :

لم تتجاوز الكتابة الاجتماعية عتبة الشرح السياقي مستفيدة من عطاءات …