إطار .. لقلب في الظل………………… إبراهيم سليمان نادر

إطار .. لقلب في الظل

إبراهيم سليمان نادر  *

جلست :

قبالتي وخوف يرش جسدها النحيل تتأبط حقيبة  بنية اللون تحتضنها في إطباقه حانية ، إطباقه تضع فيها كل ما لديها من أسرار وطلاسم خشية الضياع إطباقه تنعش فيها كل رغباتها بالدفء والاتصال .

علي المقعد الحجري ، قرب (السنتر) في مدينة (براغ) جلست ترنو إلي بارتجاف ورغبة خوف ما بشدها بين البقاء والفرار وشوق يتأجج فيه مزيد من التودد إلي اقتربت قليلاً وحدقت ملياً بعينيها الخضراوين ثم سمعتها  تقول بحنان ودفء :

–       أنت تشبهه جداً .

–       من … ؟

–       حبيبي .

–       ممكن .

–       أنت أجنبي ؟

–       نعم ..

اقتربت مني حتي لا مس فستانها ذراعي وعطرها يغسل كل شئ يغطي شذاه كل أرجاء المدينة العريضة .

همست بدفء ورغبة :

– أطلال حبي نسيتها ، خرائط موتي أجهلها ، وحين لفظني إعصار الزمن الجائر حكموا على ّ أن أذوب تسكعاً شعاع الشمس ولسعات الشتاء وأن أهديهم اسمي بخط يدي في غبش كل صبح ندي .. رسموا لي دائرة وهمية بطبشورة صفراء خطوا حدودها ، ثم قالوا لي ( لا تبرحي هذا المكان وإلا .. )

تركت كل شئ هناك وجئت هاربة أشياء قليلة هي التي حملتها معي .. صورة لملامح حبيبي وسلسلة أمكي وأيقونة من بحر الغريق القديم  ، كل المدن أصبحت باردة بدونه ، في كل معالم البشر فتشت عنه احتضنت كل الرجال بحثاً عن دفئه الغائب ، حطمت كل الحواجز أمامي ، حتي الثلج حلمت أن أتمطي عارية فوق مساماته فلم أرتعش نهشت كل أرصفة الشوارع وزوايا الطرق في مدن ( براغ وبرنو وكارلو فيفاري) حتي ( جسكاليبا ونوفي بور ) بكل مدن ( جيكو سلوفاكيا ) .

صرت طفلة يائسة ضالة ما زالت تبحث  عن هويتها فقدت قدرتها علي التلذذ بالأشياء تحولت في الشوارع العريضة الصاخبة بالفنادق والمطاعم ومحلات بيع الألبسة وأجساد النساء .

يتصلب وجهي علي وجه رجل أي رجل يومض لي ( في .. سكر اسنا ) أي
( حلوة وجميلة ) ، فيتوهج أمامي قليلاً ، لكنه يبهت يم يتلاشي مثل سمكة عجوز ، في بركة مليئة بالطحالب والفطر وأعشاب الماء .

أركض الأحق هذا الرجل أختصر المسافات بيني وبينه .. تجف حنجرتي عواء مبحوحاً غامض التقاطيع داكن القسمات ثم يطل علي وجه غريب وعيون مملؤة بالتوجس والارتياب .

أتراجع ببلاهة دونما اعتذار يضحك لي ويقسم بداخله أنني مجنونة يزلزلني انكسار مفاجئ أقف مملوءة بالاحباط والانهيار ، كل وجوه الناس نحاسية في حدقتي ، أجسادهم لامعة ملتصقة بعناية ودقة بين ذاك كله يتنفس التوهج ويسطع الأمل علي وجه رجل آخر أي رجل يبتسم رغم حزني المدمي وكعادته يفر مني الوجه ويخبو التوهج مرة أخري العالم جريح في داخلي نزفه لا ينقطع أبداً قمري صامت صار يبلله الخجل والخوف من المجهول . هرولت في كل العروق الخلفية لـ ( براغ ) أو ( براها ) كما يسمونها ، شوارع غاب عنها الضوء ففقدت ملامحها ، دخلت دهاليز قديمة ا,زقة سوداء ، كان وجهه يضئ لي للحظة علي وجه امرأة تبيع الحب ، تطل من نافذة شحيحة الضياء أو من شرفة منسية فوق بناء عتيق أحاول اصطياده لكي ابقيه في ذاكرتي ولو لرمشة هدب ، أو ومضة جفن تنظر المرأة نحوي ضاحكة باستخفاف مقيت .

–       هل تبحثين عن رجل تندفلين به ؟

–       أهرب بعيداً عنها ، ويفر مرة أخري كل شئ مني ويبقي بعض الحماس يتنفس وئيداً في داخلي .

في شوارع تلك المدينة في الزمن الذي كان فيه الخوف كائناً غبياً ، كنتب وحبيبي نسير ، نتوقف فجأة أقول له بغضب شهي ( قبلني ) يقول لي ضاحكاً ( هناك بالذات .. يمنع العناق وتنتحر القبلات ، ويحرم حمل الكتب والسلاح ) نضحك سوياً بصخب ، ثم أميل نحو شفتيه بعنف أتنفس فيهما عطر تراب الحقول ، وصهيل الم الفائر ثم نحترق سوياً بهدوء وصمت ..

في المدن الاخري رأيت أسمي وصورتي علي ملصقات الشوارع وحيطان الدروب الخرساء ( حبيبة ضالة ، لم تنل بعد شرف الشهادة ) كان حلماً ، أو لحظة قريبة من الحلم يطل وجه حبيبي من بين زحام الوجوه وتدفق الأجساد قمر يتوضأ بالبسمة والأحزان تتمزق كل قمر يتوضأ بالبسمة والأحزان تتمزق كل الملصقات أمامي وتسقط كل الجدران ثم يغور الجميع تحت جلد الأرصفة الطابوقية المرصوصة باعتناء مجهول المضامين والألوان قلت لها باسماً :

–       ما اسمك أيتها الضالة ؟

–       أجابت بابتسامة ماكرة .

–       وما شأنك بي ؟

قلت :

–       معذرة .. لعلي أتمكن من مساعدتك في البحث عنه .

–       قالت :

–       عن من ؟

–       قلت :

–       عن الحبيب الضال .

–       ردت بارتياح عميق :

–       ممكن هذا .. يجوز .. حسناً .. فأنا ( روبيرتا .. روبيرتا جوستاف ) وطفولتي عذبة

لكن كآبتي قاسية ، تمنع عيني من بكاء خريفي طويل ، تموت وحشة العالم في حضني وامتلئ بدفق من لهيب يتأجج في المنام ، فيحرق ستائر نافذتي ، قال لي حبيبي ( لا تقرئي حصف الغد ففيها إعلان عن موتي ) ، هذا النعي كاذب من أساسه، يريد فقط الافلات مني ، وحبيبي معي طيلة الفصول والأزمان .

مع صهيل ليل الدروب ومدينتي تنزف الضوء والحب والضياع تغوص قدماي معه في عري الشوارع ، نغرق معاً في الليل والتعب نتداعي ، نسقط إعياء علي أرصفة (المترو) تتمخض في داخلنا أحلام شديدة التوهج لأأرض بعيدة وأطفال خضر وسنابل قمح بلون الذهب ، حتي ولو كانت حبلي بالشوك والصبار نذهب إلي فندق أو بنسيون صغير ، نطلب غرفة بسرير واحد .وأوراقنا الثبوتية ذابت بعد أن بللها العرق رغم لسعات البرد ، لا نحمل قسيمة زواج تطردنا الوجوه وأقدامنا الخائرة تعود ثانية لنصافح الشوارع من جديد . نعانق الموت والتعب نسير دونما هدف .

حبيبي والحزن وأنا وشوارع (براغ) يتسرب الليل في جسدها دماً أسود ، كل المدن وقاسية أمامنا فنحن نمارس أصعب مهنة كونية سرطانات برية تخرج إلينا من كل الزوايا والجحور .

في ضواحي المدينة قرب التلال الداكنة طريق يمتد بعيداً وقفت وحبيبتي ، لن أحدد المكان ، أنا أعلم جيداً إنك لست أجنبياً بل من المخبرين .

كانت (براغ) من بعيد مغموسة بالعتمة ، لكنها مع ازدياد التاصقنا تقترب .. تقترب بفزع جنوني مهول نحونا ، حبيبي مهر جامع يصهل بالشهوة والدفء والنقضاض مرعبة هي السماء حينما تطل علينا من بعيد مساحة داكنة ، غريبة الأشكال بلا زرقة أو كتل غيوم .

وجود المخبرين ترعبني تثير في داخلي القئ والصديد كابوس قاتم يلاحقنا أينما نحل عيونهم تعصرني ، تتقافز حولي في المقاهي والحانات وفي قطار ليل عجوز حتي في دورات المياه أفر بعيداً مع الأجساد المتعبة والسعال ورائحة التبغ الردئ وعفونة الأقدام يحملني من مدينة لم أعرفها إلي مدينة أجهل كل وجه فيها …

تركت كل شئ هناك كل شئ يذكرني به ، فساتين الخاصة أوراقي رسائلي ، سريري فنجدان قهوتي ما زال ساخناً لكني أريد حبيبي .. فقد أريد حبيبي .. هه

–       هل رأيت صورته أيها الأجنبي ؟

–       أتمني …

فتحت حقيبتها ثم أظهرت لي عن بعد صورة لشاب وسيم ، يرتدي ملابس طيران حين هممت أن ألمسها لا تمعن في ملامحها هتفت بخوف وحدة :

–       كلا .. لا تسرق مني ملامح حبيبي .

نهضت السيدة العجوز عن مقعدها الحجري تحتضن حقيبتها في إطباقه حانية ، إطباقه غريبة تضع فيها كل ما عندها من قدرة علي الدفء والحب والاتصال إطباقه ينصهر فيها الجسد وتختنق من خلالها مسارات الدم الراكض وتموت الرغبات فيحيا في تجاويفها العقل ويتجدد الأمل الضال .

بقيت وحيداً أطاردها بنظرات ساهمة وشرود ودهشتي تصفعني حتي اختفت بعيداً بين الوجوه المتلاطمة ، بينما كانت عيناي تجاهدان سدي لحس دمعتين انفلتنا من محجرين ملتهبين .


* قاص عراقي .