من السلطة إلي الحداثة إلي العزلة

من السلطة إلي الحداثة إلي العزلة مع الناقد د.كمال أبوديب

حوار : يوسف وهيب *

• علتنا الفكرية هي انفصام مشروع الحداثة الإبداعي عن مشروع التحديث الاجتماعي . • شهرزاد مثلت الفصل الأول في كسر سلطة السرد الذكورية القامعة ! • النقد الثقافي ليس اختراعاً جديداً واقرأوا أونيس في ” الثابت والمتحول ” جيداً وكتابات جابر عصفور وكمال أبوديب منذ أربعة عقود ! • سلطة الخطاب النقدي هي تمظهر عدم الوعي للسلطات احاكمية والأبوية . • لأن غالبية الأعمال الإبداعية ( في الشعر أو القصة أو الرواية وغير ذلك ) غلب عليها الاستسهال سواء في التناول أو فيما تطرحه وفي اللغة التي تتوسل بها وبالتالي استتبعها نقد أقرب إلي التفسير أو إعادة مقولات النص المكتوب دون عناء يذكر فكان كلاهما ( الإبداع والنقد ) مجرد تسلية وانزلاق علي سطوح الأشياء والكائنات بما هو رصد خارجي لها ، ولكن في فترة تالية أخذ النص الإبداعي يعي وظيفته وعمقه الزماني والمكاني فأخذ يحفر في جذور الأشياء ضارباً في الزمان والمكان من وراء إلي أمام وبالعكس كما رأينافي ( صلاح عبدالصبور وأدونيس وسليم بركات وإبراهيم أصلان وغيرهم من المبدعين العرب ) حيث حلت الأسئلة محل الإجابات الجاهزة وحل التساؤل محل اليقين الكامل .. وبالتالي وبطبيعة الحال لابد أن تستتبع ذلك نظرة نقدية جديدة تتجاوز السابق في مدرستيه وجاهزيته النقدية إلي الحفر في جذور الأشياء ونبشها ومساؤلة هذه الجذور بما يمنح السؤال الفكري الفاعل مشروعيته في المشروع التحديثي الاجتماعي والثقافي .. ومن أصحاب هذا المشروع الكبير والذين تؤرقهم أسئلة المشروعين : • الحداثي الفكري والسعي بالتالي إلي التحديث الاجتماعي ، الناقد الدكتور كمال أبوديب صاحب جدلية الخفاء والتجلي ، وجماليات التجاور وغيرها من أبحاث جديرة بالمساءلة وهو أيضاً أستاذ كرسي الادب العرب بجامعة أكسفورد في بريطانيا لذلك كله كان لابد من محاورته لنتساءل معه عن أزمة المشروع الثقافي والنقدي العربي . س 1: في ” جدلية الخفاء والتجلي وغيره من أبحاث لكمال أبوديب هناك جهد كبير في الحفر تحت الجذور المنتجة للنص الإبداعي في محاولة لكشف السلطة المتحكمة فيه مما يترتب عليه مساءلات كثيرة ومتنوعة أيمكن أن تري إلي ذلك علي أنه نقد ثقافي : ج: هذا سؤال ذكي والإجابة عليه نعم مع الاحتزاز ففيما قلته شئ من الصحة ولكنها تحتاج إلي التوضيح صحيح إنني في دراسات كثيرة كنت دائماً أموضع النص الأدبي بعد تحليله تحليلاً بنيوياً في سياق إشكاليات أساسية وفضاءات أساسية في الثقافة والمجتمع ، وفي بحث لم ينشر في هذا الكتاب ( جدلية الخفاء والتجلي ) الذي تقصده بل نشر ضمن ملف الأدب والأيديولوجيا في مجلة فصول 1984 قدمت ما أسميه منذ زمن بعيد Culture critic وما ابتدعت له ترجمة عربية أرجو أن تكون معبرة هي ” التنفيذ الثقافي ” ، وفي هذا البحث تناولت قصيدة أبي تمام في فتح عمورية وحاولت أن أظهر كيف أنبيتاً واحداً في النص يمكن أن يصبح بؤرة يتمركز حولها النص بأكمله ،وكيف أن موقف الفنان أو الشاعر – في بيئة دينية – من سلطة الحاكم خلقت ناتجاً مشروعاً في بيت تدبير معتصم لله منتقم وبينت في دراستي هنا التنازع بين السلطتين بين رؤيا الفنان وعقله ، وعن إشكالية وجدت أنها ضمن ثقافة معنية وكيف أن هذه الثقافة من جانب آخر في أطرها السلطوية تخلق وتفرض لا نمطاً معنياً من النص النسق ، بل أحياناً تركيباً معيناً في جملة أو بيت شعري بعد في نقده للثقافة أبلغ بكثير مما يدور الآن من أفكار ، لأنه يتناول الأمور من الجزئيات إلي الكليات وفي دراستي لقصيدة “المرايا ” كيميا الدرجس لأدونيس حاولت الكشف عن بنية الثقافة بأكملها من خلال هذا النص ، وكيف أن الصراع8 الذي يدور بين ثنائيات ضدية تتعلق برؤية الفنان للقديم والجديد ، وتنشأ بينها رؤية متوسطية تقوم علي ابتكار الجديد مع الرغبة في تدمير القديم لا من أجل قتله وإفنائه بل من أجل مساءلته وإحيائه ، وفي عشرات المقالات التي كتبتها عن وضع المرأة في منتصف الخمسينات ونشرتها في الخمسينات أيضاً تحت عنوان ( رسائل إلي أمرأة عربية ) في مجلة البيان الخليجية كنت أدرس تركيبة وصيغة المؤنت والمذكر فيها وكيف أن اللغة في حد ذاتها والثقافة المعتمدة عليها كذلك تولد نموذجاًسلطوياً يتمثل في الذكورة وهي مصدر قامع للأنوثة والمرأة كنت دائماً أبحث واتساءل منذ الخمسينات فيما يظنه البعض الآن طرحاً جديداً وأنهم ابتكروه منذ سنة أو سنتين ويسمونه النقد الثقافي التسمية حرفياً واردة في البحث الذي قدمته في مؤتمر النقد الأدبي بالقاهرة والذي قامت به الجمعية المصرية للنقد الادبي أواخر العام 2000 ، وبالحرفية قلت علينا أن ننظر بجدية في تحويل النقد الأدبي إلي نقد ثقافي ، وهذا ايضاً موجود عندي من قبل في بحث بالإنجليزية منشور منذ سنوات وفي بحث آخر هو بين يدي القراء منذ خمسة أعوام بعنوان ( في الفكر النقدي والفكر النقضي ) تحدثت عما يلي : ضرورة تمييز الاتساق الأساسية في الثقافة العربية وسميتها المناسق والكلمة من ابتكاري قلت ينبغي أن يحاول الفكر النقدي الذي يتحول من نقد أدبي إلي نقد ثقافي أن يميز بين المناسق الأساسية للثقافة العربية ، وعددت هذه المناسق الإلغائية والذكورية وهي كلمتي التي أستخدمها لوصف الطغيان الذكوري في المجتمع وبالتالي في النسق الثقافي أو العكس بعضهم الآن شاء أن يسميها بأسماء أخري لكن أن يقال أن هذا النمط ظهر فجأة في ثقافتنا هو بلا شك اتهام للمثقفين العرب كأننا غافلون أو نائمون لا نعي الأمور فما مارسه أدونيس منذ أكثر من ثلاثين عاماً في الثابت والمتحول هو نقد ثقافي من الطراز الأول لأنه أيضاً ميز بين الأنساق الثقافية وأطلق علي اتجاه منها اسم الثابت والاتجاه الآخر أسماه بالمتحول وطرح أسئلته علي التراث العربي من أدب وفقه ونحو ولغة كأن ذلك في سبعينيات القرن الذي ودعناه وفي دراسات أخري لجابر عصفور وخالدة سعيد والياس خوري وغيرهم وحيث كتبت بحثي ” الانساق والبنية ” الذي نشر في فصول العام 1981 كان ضمن أول الأبحاث التي تناولت هذا الموضوع وقد أكتسب شهرة كبيرة ، كنت أحاول من خلال انساق القصيدة أن أدرس كيف تحولت رؤيا الثقافة العربية بمفهوم البطل إلي الحديث عن موت فكرة البطل الذي المنقذ القادر وقلت أن ما تتحدث عنه من أفكار من الثقافة يتحدثون عنها في السياق عن موت البطل في الثقافة بعدها بسنوات .. كل هذه الأطروحات والأسئلة ألا تشكل نقداً ثقافياً ؟!! • لعلك جئت علي هذه الأسئلة بشكل جلي ومحدد في بحث آخر لك هو الحداثة / النص / السلطة ” ؟ ! • نعم .. هذا جيد أنت تعرف هذا البحث ولكن دعني أرتب لك العنوان كما كتبته هو الحداثة / السلطة / النص ، ففي بحثي عن التعارض أخذت شخصية شهرزاد في بحث مطول عن حلقات كثيرة عنوانه ” الألوهة الحاكمية ، الأبوة ” وربطت بين النماذج الثلاثة في مقالات نشرت في مجلة الأفق بين عامي (1983، 1986 ) ودرست فيها الأنماط الثقافية اسائدة ومفهوم السلطة الألوهية ، وسلطة الحاكم وسلطة الأب ! وكيف تلتقي جميعها وتتجسد في اللغة وفي هذه الدراسة الطريقة الجديدة في اعتقادي رأيت في شهرزاد أن المرأة بوعيها تعمل كفاعل مدمر للنسق القديم فهي تلعب دوراً نقيضاً للرجل ومتمردة علي السلطة بنفسها للقيم الأخلاقية وينسف طبيعة اللغة ايضاً في خطاباتها المتعددة وعقدت بينها مقارنة في السرد النثري في الحكايات التي روتها شهرزاد كراوية أنثي وبين الشعر وبين غيرها من الشخصيات واعتبرت الشعر هو النموذج الذي يمثل العالم الرسمي وفضاء الثقافة الرسمية التي يسيطر عليها الذكر ومن خلال كتب أخري ناقشت قصصاً أخري تمثل من خلال السرد النثري التمرد علي الشكل الطاغي وهو الشعر والسلطة الطاغية الرسمية الذكورية . • من خلال حديثك نقرأ أن هناك علاقة تتم علي مستويين بين السلطة الحاكمة والمبدع فمرة تكون علاقة تنازع ومرة علاقة تما هي … في هذا الإطار كيف يمكن أن يكون الخطاب الثقافي العربي خطاباً قائداً وليس مقوداً بالسياسي صوتاً حقيقياً للأسئلة الإبداعية والفكرية وليس صدي للسياسي ؟! • في اعتقادي – وتساؤلاتك تحمل هماً فكرياً حقيقاً بالمسائلة أيضاً – أن هذا هو ما كنا نحاول ان نفعله وهو أن يكون للفكرالنقدي فاعلية جذرية في الثقافة العربية بأن يلعب دور التنفيذ المستمر للواقع والراهن وللمكونات الأساسية وما أسميته بالمناسق الاساسية في الثقافة والمجتمع ومن خلال ذلك يلعب دوراً الوعي النقدي الضدي الذي لا يلتبس بالسلطة ويحاذر التحول إلي سلطة من جهة ويظل منفصلاً عن عالم السلطة السياسية غير قابل أن ينضوي في إطارها أصلاً لأن من ينضوي يستهلك من قبل هذه السلطة ويستخدم كأداة لها الفكر النقضي الذي نسعي إلي نشره في الثقافة العربية يلعب دور الفكر النقيض والناقض لمجموع القيم الأخلاقية والثقافية والسياسية السائدة ومن هذا الموقع بالتحديد وهو موقع شبيه بما حدده أدوار سعيد في كتابه المهم تمثيلات المثقف هو من يجعل الفكر النقيض يمتلك صفة وسمة الضدية لأنه أن لم يمتلك هذه السمة سينصهر أو يذوب دائماً ضمن إطار الفضاء الثقافي الكلي أو يتم تحديده وسواء درج أو حيد فإن ذلك يفقد الثقافة النبض الفاعل والحقيقي لجعلها ثقافة حية وكثير من الزملاء يعملون بهذه الطريقة ويسعون إلي تاسيس مثل هذا النشاط ويدعون – كما قلت أنا وغيري – إلي ضرورة انقلاب في النظرة إلي مفهوم الثقافة والتربية في المجتمعات العربية ، بحيث تبدأ هذه الأمور بالتبلور والتنمية وبالتطور منذ طفولة الفرد العربي من خلال العائلة والمدرسة وصولاً إلي الميادين الأخري في المجتمع ، بحيث يصبح المجتمع خلية من الفاعلية النقضية لا بالمعني الادبي فقط بل بممارسة وتطوير الموقف الضدي النقضي للثقافة والمجتمع . • خلال أربعة عقود أو يزيد .. تنوعت الأسئلة التي تطرحها ابحاثك بين مساءلة التراث وتطوير الخطاب النقدي كيف تري وكيف نعمل علي تفادي الوقوع في سلطة نقدية أخري تنتج من الهروب من سلطة التراث ؟! • هذا سؤال جدير بالتأمل لكنه يشتمل علي طرفين الأول وهو كيف نخرج من سلطة التراث ، أظن الخروج من هذا النفق أمر يتطلب جهداً كبيراً أولاً يتطلب تنمية وتطويراً للوعي النقدي الضدي ولا يتم هذا إلا في إطار تغير معرفي حقيقي بحيث ان الماضي يصبح داخلاً شئناً أم أبيناً في تكويننا النفسي والفكري والثقافة عامة ، لكنه في الوقت نفسه لا يدخل باعتباره نموذجاً ينبغي أن نقلده أو أنه ذو قداسة ينبغي أن نحافظ عليها بل يدخل باعتباره مجموعة من الفاعليات الحيوية التي نكتسب من خلالها بعضاً من المقدرات والرؤي الخصبة في الثقافة النبض الفاعل والحقيقي لجعلها ثقافة حية ، وكثير من الزملاء يعملون بهذه الطريقة ويسعون إلي تأسيس مثل هذا النشاط ويدعون – كما قلت أنا وغيري – إلي ضرورة انقلاب في النظرة إلي مفهوم الثقافة والتربية في المجتمعات العربية ، بحيث تبدأ هذه الأمور بالتبلور والتنمية ، وبالتطور منذ طفولة الفرد العربي من خلال العائلة ، ومنذ أن قال خلف بن الأحمر لسائله الذي شكك ف يجدوي النقد : ” إذا جاءك أحد بردهم وقال لك أنه زائف ، فما ينفعك أنت إن قلت أنه ليس بزائف ” .. هناك سلطة هناك لا سلطة حتي في هذا القول البسيط والنقد من خلال عصوره كلها كان يمتلك مثل هذه السلطة والهيبة وهناك شواهد كثير علي ذلك لكن وعينا المعاصر والتمرد ضد السلطة بأشكالها قد عمل ويعمل علي خلخلة هذه السلطة من خلال تطوير مفهوم النقد الثقافي الذي حتماً سيؤدي إلي محاولات كسر هذه السلطة النقدية ولعل هذه المسألة كانت أكثر المسائل بروزاً في كتابي الأخير ( جماليات التجاور ، أو تشابك الفضاءات الإبداعية 1997 ) إذ أنني أنجزت نصوصاً نقدية ليست نمطية ولا فيها صوت واحد بل يتبلور الصوت في جمل ثم تخترقه جمل تعترض عليه أو تتهمه بالتناقض وبالتزوير والكذب . • ألا تدخل تجربة أدونيس في قصيدة “أسماعيل ” أو في تجربة “الكتاب ” بأجزائه ؟! • نعم هناك كما تقول في النص الشعري محاولات مشابهة أبرزها محاولة أدونيس لكن في تعدد الأصوات التي تسعي إلي تدمير سلطة النقد ووحدانية الصوت كان أبرز السمات التي تسم كتابي هذا وهذا التمرد علي سلطة النقد من الضرورة النقدية حيث أنه لا يمكن أن يصدر إلا من خلال تشكيل الوعي الضدي النقدي ومن خلال امتحان النقد لنفسه وامتحان وتحدي هذه السلطة ومحاولة تشتيتها بحيث يصبح أكثر تماساً وانفتاحاً علي العالم الحقيقي من جهة وعالم القراءة من جهة أخري . • ألا تأتي جهود جابر عصفور في المسائلة النقدية للنقد نفسه في كتابه النظرية والنقدية أو في المرايا المتجاورة وفي كتاب لم ينشر لغالي شكري بعد عنوان نقد بلا سلطة كان قد نشر منه مقالات متناثرة في حياته ؟! • نعم … فأنا لا أزعم لنفسي فقط أحقية المساءلة فلعلني قد كررت كثيراً من قبل أن آخرين لهم جهودهم في هذا المجال ولعل ذكر جابر عصفور جاء ونحن نتحدث عن زعم أحدهم – كما تفضلت – بأنه صاحب النقد الثقافي فجابر وغالي وأدونيس وغيرهم كثير كانوا أصحاب إرهاصات تحترم ، النقد الثقافي والمساءلة النقدية للنقد ذاته .