صورة الذات / مرآة التطور – أ. د/ سوسن ناجى رضوان

صورة الذات / مرآة التطور

“قراءة في تطور السرد القصصي النسائي المصري المعاصر”

(1)

يظل الحديث الحياة عن العامة ، والعمل غير مكتمل  دون الحديث عن المشاعر الخاصة والأحاسيس والعلاقات الحميمة ، إذ لا يوجد حد فاصل بين القضية العامة ، والقضية الخاصة ، ولايمكن فهم ما هو عام إلا في علاقته بما هو خاص ، ولافهم ماهو خاص إلا إذا أحطنا بما عام وهكذا

ووجه التناقض أو النقص يبدو متى فصلنا بين العام والخاص ، متى جزأنا المعرفة والفكر الإنساني ففصلنا بين السياسة ، والدين ، والفن  والأخلاق حينئذ تغيب الحقيقة والنظرة الشمولية إلى الإنسان والحياة ويسود التناقص ، والانقسام في جوهر العلاقات الإنسانية بين الأفراد فيستحيل البشر إلى صنفين : سيد وعبد ، مالك ومملوك ، حاكم ومحكوك ، رجل وامرأة، ويكون الشكل الهرمي هو القالب الذي يبدى جوهر علاقات غير متكافئة ..

وصورة التناقص في واقعنا الاجتماعي كثيرة : تبدأ من بيئة تفصل بين حياة خاصة وحياة  عامة ، وتنتهي بأنماط من رجال ونساء يفصلون أيضا بين الفعل والقول ، بين العقل والوجدان ، بين الخارج والداخل  وتكون ذات الفرد – بازدواجيتها في مناخ كهذا – بمثابة المرآة التي تعكس انقسام قيم ، وفكر ، وقوانين مجتمع بأكمله00

والمرأة في هذا الواقع / المجتمع تعيد صياغة الشكل الهرمي للعلاقات – بطريقة غير واعية – في علاقتها مع ذاتها ، ومع الآخرين بتبني عقيدة وقيم هذا الواقع ، أو كما ترى” سوزان جوبار” أبرز ناقدات النقد النسائي الجديد في الغرب” في مقالها” الصفحة البيضاء” إن المرأة تتبنى منظوراً عن الذات تكون بمقتضاه المفعول به ، والرجل يكون هو الفاعل ، وذلك نتيجة لعوامل التربية ، والمنظور الذكورى للمرأة”وبدل أن تقاوم المرأة تلك النظرة الموجهة إليها من قبل الرجل فإنها تتمادى فيها وتتبناها00

وتظل صورة الذات كما توضحها ” سوزان جوبار” محددة من خلال منظور الرجل ، بل تكون بمثابة النص المكتوب ، أو الصفحة البيضاء التي يسطرها الرجل فتظل بمثابة التمثال لا المثال ، والمصنوع لا الصانع” ويكون تصور المرأة لذاتها – مجرد- نتاج لعملية تفاعل طويل بين ما هو واقعي وما تسقطه هي – على واقعها من تصور ذاتي ، أي أنها صورة تمر بمصفاة الذاتية ، وتصطبغ بلونها ، وفى الوقت نفسه لا تفلت من منظور الرجل والمجتمع ، بل تظل مجرد انعكاس وامتداد لهما

هكذا تتأثر صورة الذات بالتخطيط الاجتماعي – بطريقة غير واعية وبدل أن يتعلم النساء كيف يكن ذواتهن ، فإنهن يلقن منذ الطفولة أن يكن أخريات ، وينتج عن هذا ضياع للسمات الحقيقة للذات الأنثوية وتحدد ” سيمون دى بوفوار” الجنس الآخر ” ملامح انحماء الذات الأنثوي واستبدال أخرى بها في إطار المجتمع ، في قولها ” أنا لاأولد امرأة ، لكنى أتعلم أن أكون كذلك “0

وفى مجتمعاتنا تتبنى المرأة تلك الصورة المرسومة لها سلفا عن ذاتها ، ويتبع هذا ضياع ملامحها الفردية كشخص مختلف” ولما كانت الفردية تمايز واختلاف في “الأنا” عن الآخر” كان ضياعها مءشراً دالاً على انزواء “الأنا” وذوبانها في الآخر” لتصبح مجرد ” موضوع” تابع للرجل “الذات”0

ولما كانت تلك الأنماط مجرد صورة يقوم المجتمع برسمها تبعا لحاجته” الاقتصادية” وحاجات كل مرحلة من مراحل تطوره – لذا- كانت هذه الصورة متغيرة بتغير حاجيات هذا المجتمع ، وبتغير خط تطوره ، تتغير صورة الذات ، وتتبدل إلى أخرى00

إن تحقق الذات الأنثوية لايكون إلا مع تحرر صورة الذات ، وتحرر

صورة الذات لا يكون إلا بخروجها من الداخل إلى الخارج ، أي تحررها ضمنيا من منظورها التقليدي وذلك بإلغاء انقسامها وازدواجيتها الكائنة بين التفكير والإحساس ، أو بين الذات والموضوع0

و صورة الذات لديهن تتأثر بموقع الكاتبات عبر منحنى تطور الواقع في مصر ، ونمثل لهذا التطور بمواقع المرأة / الكاتبة في ثلاثينات  هذا القرن  ثم موقعها في الفترة التالية لثورة يوليو (1952) وإذا كانت هاتان الفترتان  تمثلان صعودا وتقدما في مسيرة المرأة المصرية ، إلا أن الفترة التالية لثورة (1952) شهدت تحولا جذريا في واقع المرأة المصرية ، حيث أصبح هناك إقبال على تطور هذه المرأة على كافة المستويات 0 في حين أن فترة الثلاثينات شهدت بدايات افتتاح الجامعة المصرية ، لالتحاق الفتيات بمختلف الكليات 0وهكذا فالمراحل التي تطورت فيها ” صورة الذات ليست منفصلة تماما ، فبذور التطور لم تزدهر سوى في الخمسينات ،– ورغم بداية التحاق المرأة / الكاتبة بالجامعة المصرية – فقد كانت بمثابة المقدمة والنبت ، لذا ظلت الذات في تلك الفترة أسيرة أيديولوجيا الفكر السائد عن دور المرأة /الرجل في المجتمع وانبنى على هذا تبنى الكاتبات لفكر الرجال /، الكتاب في تلك الفترة مما أثر سلبا على صورة الرجل السيد فقد ظلت أسيرة ” هذا الذات المسجون في الدائرة التقليدية والتي تحدد بدورها أنماط الرجل / النساء في قوالب تقليدية – تفصل بين الرجل والمرأة وتنظر إليهم من منظور ثنانى ، يستمر في تبرير هيمنة الرجل وتوريث الشكل الهرمي داخل الأسرة 0

ونمثل لتلك الظاهرة بتصورهن للرجل/ الآخر(1) 0 حيث جاءت صورته في كتابات ابنه الشاطئ ، وسهير القلماوى وجميله العلايلى وهى كتابات قصصته نشرت ابتداء من ثلاثينات وأربعينات هذا القرن امتداداً لصورته في كتابات الكتاب الرجال في حين أن كتابات فترة الخمسينات (جاذبية صدقي، صوفي عبد الله 00) تعكس ملامح متباينة ” لصورة الرجل ، والقضية المستثارة في قصص هؤلاء هي قضية امرأة – بالدرجة الأولى – قبل أن تكون قضية أو مشكلة رجل

ونمثل لذلك بظاهرة اختفاء الرجل السيد المتسلط في كتابات : ابنة الشاطئ سهير القلماوى ، جميلة العلايلى ، وهى كتابات قصصية نشرت ابتداء من الثلاثينات والأربعينات) ، في حين أنها بدأت تظهر في كتابات صوفي عبد الله  جاذبية صدقي ، نجيبة العسال، أليفة رفعت ، سعاد حلمي إحسان كمال ( وهى كتابات قصصية نشرت ابتداء من فترة الخمسينات إلى مابعدها )

فصور الرجل في كتابات : ابنة الشاطئ ، سهير القلماوى ،جميلة  العلايلى الثلاثيات امتداد لصورته في كتابات الكتاب الرجال ، والقضية المستثارة في تلك القصص قضية رجل يعانى صراعا تقليديا بين العاطفة والواجب ، وليست قضية امرأة تعانى قهر تسلط الرجل عليها 0

وصورة الرجل (السيد) عند كاتبات فترة ما بعد الخمسينات تعكس تطورا واضحاً في صورة الذات الانثوى (للكاتبات) في فترة الثلاثينات  وذلك بدأ من خلال سيطرة الضمير النسائي على مستوى القص ، في مقابل خفوت صوت الرجل ( كشخصية رئيسية ، أو راوي) ، وهذا في حد ذاته يعكس تجاوز الذات الانثوى مرحلة الوعي بفقدان الذات أو تماهيها  في الآخر ( الكاتبات في فترة الثلاثينات  إلى مرحلة الوعي بفقدان الذات من  بالإغراق في ” الأنا” ( النرجسي) كرغبة ضمنية في تحديد موقع “الذات” الواقع المحيط 0

ومن ثم فصورة الرجل في قصص هؤلاء الكاتبات تبدو في إطار مهمش ، لانراه إلامن خلال قراءة فجوات / رد فعل المرأة / البطلة (في النص) ، وقراءة مايعكسه موقف المرأة (البطلة/ الكاتبة) من الواقع بصفة عامة ، ومن الرجل بصفة خاصة ودلاله ذلك كله على موقع الرجل من / في عالم المرأة0

وكأن قراءتنا لصورة الرجل السيد لاتتضح  0 في كتابات هؤلاء الكاتبات – ألا بقراءة موقف المرأة / الكاتبة من تسلط / سيطر الرجل عليها 0في حين أن كتابات فترة الخمسينات (جاذبية صدقي صوفي عبدا لله)تعكس ملامح متباينة لصورة الرجل ،والقضية المستثارة في قصص هؤلاء هي قضية امرأة _بالدرجة الأولي _ قبل أن تكون قضية أو مشكلة رجل.

إن اختفاء صورة الرجل السيد في باكورة الإنتاج القصصي النسائي يؤكد مقولتنا بتبني كتابات تلك الفترة فكر الكتاب /الرجل، حيث لا قضية ذاتية تعاني منها نساء تلك الفترة إزاء الرجال /نساء، في المجتمع. أما الكتابات القصصية النسائية في فترة الخمسينيات و الستينيات ،فهي الكتابات التي ظهرت فيها أنماط صورة الرجل السيد ، وهذا في حد ذاته يعكس تمثلا جديدا للواقع (من قبل المرأة /الكاتبة)و بزوغ صورة أكثر تطورا للذات  النسائي في تلك الفترة .

إن تحقق الذات الأنثوية لايكون إلا مع تحرر صورة الذات ، وتحرر صورة الذات لايكون إلا بخروجها من الداخل إلى الخارج ، أي تحررها ضمنيا من منظورها التقليدي وذلك بإلغاء انقسامها وازدواجيتها الكائنة بين التفكير والإحساس ، أو بين العقل والوجدان00 أو بمعنى آخر توحدها ، وعدم انشطارها وانقسامها إلى ملكات غير مجتمعة00

ومثل هذا التصور “الضمني لذات المرأة يفسر سر دوران المرأة/ الكاتبة – في حقبة مبكرة من تاريخ واقعنا المصري – في تيار كتابات الرجل ، أي تبنيها وتقليدها إياه وإعادة إنتاج مواقف تقليدية تتقمص فيها المرأة روح الرجل في مقابل عجز هذه المرأة / الكاتبة عن الإفصاح عن عالمها وتجربتها في صدق وحرية 0

إن كثيراً من أديبات القرن العشرين يستخدمن الكتابة دون تجاوز للصورة المرسومة سلفاً من المجتمع لهن فيعدن صياغتها ، ويتجنبن التعبير عن الانفعالات والعواطف النفسية ، أو بمعنى آخر يمضين في نفس السياق الفكري الذي رسمه الرجال / الكتاب من قبل

وكأن المرأة / الكاتبة  في محاولتها لتفادى المحظور ، تغلق نفسها داخل ما يسمح به المجتمع ، والعرف العام فتتهيب أمام التجربة ، تختار السلامة والتكيف بدل المغامرة والخروج خارج السور التقليدي ، لذا تظل كتاباتها عن منطقة نائية ، لم تطئها أقدامها بعد000

ولكن هذا لاينطبق على جميع الكاتبات عبر المراحل الزمنية المختلفة ، وذلك للتطور الذي لحقت به المرأة/ الكاتبة عبر الزمن ، واستطاعت معه أن تتحرر ذاتياً- بدرجات متفاوتة- من سجن الصورة التقليدية المرسومة لها سلفاً00 وذلك بتبني صورة جديدة عن الذات ، تبعثها رؤية جديدة – من  جانبها للعالم

وموقف الكاتبة – هنا يبدو  من خلال الرفض لما هو قائم ، حيث أزداد الوعي بالذات بالقيد ، وبالقسمة الثنائية القائمة بينها والرجل ، ومن ثم ينبغي التعبير عن الرغبة في استعادة هذه الذات المفقودة ، بأشكال مختلفة تارة بشكل عدم الإذعان للرجل ( حنيفة فتحي) وتارة أخرى بشكل الرفض للأنموذج الثنائي المتمثل في سلوكيات الرجل والمرأة معا (زينب رشدي) ، وللرجل المتسلط بصفة عامة ( منى رجب ، سكينة فؤاد) ، وللرجل التقليدي بصفة خاصة ( إقبال بركة) وأخيراً بشكل الغبن عند نعمات البحيرى حيث يصل القهر الموجة ضد المرأة            من قبل الرجل والمجتمع ، والأسرة والواقع المتردي إلى قمته فيتجاوزن مرحلة الرضا ، والتمرد ،إلى مرحلة الفعل والثورة ، بهدف التغيير0

وهى مرحلة يتخللها  صراع ، والمقصود بالصراع – هنا هو الدخول في علاقة Dialectic)) مع الرجل،ومع الواقع الاجتماعي ، بهدف التحرير الحقيقي ،الذي يتجاوز مرحلة النصوص ، إلي مرحلة الوعي بالواقع .

حياديا وهكذا تبدو”صورة الذات ” بمثابة المرآة التي تعكس بتطويرها واختلافها منحنيات التطوير في الواقع الاجتماعي . وكأن التغيير الحقيقي للخارج يبدأ من الداخل ،وللمجموع يبدأ من الفرد ، حيث لأفرق بين الجزء والكل ، بين الخاص والعام .

غير أن هناك ثمة موقفا حيادياً  أو موضوعيا تجاه الرجل السيد –يبدو من خلال عدم تصديرهن الصراع كملمح قائم في العلاقة بينهن والرجل وذلك لنمو وعيهن التاريخي بوضع المرأة ، وواقع العلاقة بينهما والرجل ،ثم محاولتهن طرح رؤية مستقبليه من خلال خلقهن بدائل للعلاقات المحبطة في شكل محاولات شتى تسعى إلي تحرير الذات – تبدأ من البحث عن الذات ، حتى تصل إلي استعادتها ، ؟أو محاولة اكتشافها وأهم كاتبات هذه الوقف”لطيفة الزيات ” زينب صادق ، وفيه خيرىاعتدال عثمان ، سهام بيومي” سناء البيسى” سلوى بكر 0

وتستعيد “لطيفة الزيات” الذات المفقودة في مجموعتها الشيخوخة” بالكشف عن المسكوت عنة ، والمكبوت في الوعي ، ومادام المسكوت عنة قد طغا على السطح ووعته الذات ، فإن الحل يصبح ميسورا لتجاوز الإخفاق الخاص والعام ويتم التجاوز على المستوى الخاص حين تتخلص ” الراوية” من الزيف ، ومن الكبح للرغبات الأصلية ، فتطلق صراح الصبية المكبوتة داخلها في مجموعة الشيخوخة حينئذ تستطيع المرأة/ الراوية الناضجة التعبير عن مشاعر لم تجرؤ الصبية عن التعبير عنها آنذاك (قصة البدايات) فتسمح الآن لكيانها أن يشع ويزغرد بتشوقات الصبية المكتومه التي لم تعد مكتومة عندئذ تكون قد وصلت ما انقطع بمعنى إدراكها لضرورة تحقيق التكامل الفكري والنفسي والحسي وعنئذ فقط يتم تجاوز الإخفاق على المستوى العام أي على مستوى قصور إرادة الفعل عن تحقيق ما يجول بالفكر 0

*****************

(2)

كذلك يبدو اهتمام الكاتبة بصورة الذات من خلال اهتمامها بصورة المرأة وقضيتها في اتخاذها المرأة محور للبطولة(2) ، ومحورا للصراع ،وفي امتزاجها (ككاتبة)-في غالب – بالبطلة (الشخصية الرئيسية في الرواية ،للتعبير عن صراع البطلة ، وعن صراعها في آن واحد ،وبهذا ترسم الكاتبة صورة فنية للمرأة في علاقتها لذاتها وبالآخرين ،وفي الوقت نفسه ترسم صورة لنفسها تحقق لها ما كان ومن الممكن ومن الخطر أن يكون ونعني بالصورة الفنية للمرأة جوانبها العديدة :وهي علاقتها بذاتها ، والآخرين ، أو بمعي أخر صورة الذات لديها.

وإذا أردنا أن نستخلص الخط التطوري الذي رسمته الكاتبة لصورة المرأة وجدناه  يبدأ من “بنت الشاطئ “في روايتها “سيد العزبة” (1942)وينتهي مع صورة المرأة فى روايات زينب صادق (1980) 0فى حين أن الروائي الرجل بدأ فى هذا الخط التطوري – لرسم صورة المرأة  عام 1914 برواية زينب (1914) لمحمد حسين هيكل 0

فقد بدأ الروائي برسم صورة غير واقعية للمرأة بحيث تصبح إما ملكا وأما بغيا قديسة لأنها سقطت بالرغم منها ، أو تضحية بنفسها فى سبيل أسرتها الفقيرة وغير ذلك مما يمد الاتجاه الرومانسي بموضوع من موضوعاته الأثيرة، ومع تطور وخروج المرأة إلى التعليم والعمل ورؤية الرجل لها عن قرب أصبحت نظرة الرجل إلى المرأة أكثر واقعية فلا يوغل فى تقديسها ولا فى تلطيخها ، وهكذا ساعد التطور الاجتماعي فى العلاقات بين المرأة والرجل على انحسار موجة المد الرومانسي واشتداد الاتجاه الواقعي 0

إن التطور الفنى لصور المرأة فى الرواية ومحاولة الروائى إظهار المرأة كإنسان حر ، يساهم فى بناء الوطن على قدم المساواة مع الرجل لايطهر فى الفترات التاريخية القريبة من ثورة 1952 ،أى أن يظهور نموذج إنساني سوى فى الرواية لاتظفر به إلا مع بداية التحرر الحقيقي للوطن ، فى حين أن هذه الصورة لم تظهر فى الرواية النسائية إلا بعد ثورة 1952 مع رواية الباب المفتوح (1960)، للطيفة الزيات حيث كانت هذه الرواية تمثل – أيضاً- انحسار موجة المد الرومانسي واشتداد الاتجاه الواقعي 0 وهذه يرجع – بدوره-إلى الوضع الاجتماعي المتخلف للمرأة فى مجتمعنا ، والذي بدأ يأخذ دوره في التطرق أخيرا- مع بداية هذا القرن – ويرجع أيضاً إلى تأخر وقلة مشاكة المرأة في النشاط الايجابي لحركة المجتمع وتزمت التقاليد التى لاتعترف بتحرير المرأة ولا بشرعية الحب 0

وبعد ثورة يوليو (1952) أو فى الثلاثين عاماً الأخيرة ، بدأت كتابات المرأة تصبح جزءا من الأدب العربي الذي يعالج قضايا المرأة كمشروع لتغيير المجتمع 0 وأصبح جزءا من الأدب المرأة في العالم العربي خصوصيته وسماته المشتركة – إلى حد كبير – وهى السمات التي تضفى علية هذه الخصوصية وهذا لايعنى بحال أن المرأة الكاتبة تطرق نفس المجالات التي يطرقها الرجل ولا يعنى أيضاً اهتماماتها لاتمتد لكل ماتتسع له اهتمامات الكاتب ، ولكن يعنى أن المرأة العربية لم تفقد خصوصية وضعها كامرأة وهى تطرق باب الفن 0

وهذا واضح من كل الروايات التي ظهرت في تلك الفترة بأشكال متفاوتة أو بنسب متفاوتة فالكاتبة – كما سبق أن قلنا – تقدم للقصة في بدايتها ثم تظهر مع نهايتها وهذه الظاهرة لم تنته من القصة حتى بعد فترة النضج ، فنجد على سبيل المثال أمنية السعيد في رواية آخر الطريق (1959) تظهر في أول الرواية وتتدخل بالشرح والتحليل النفسي في وسط الرواية ، ثم ترجع تخاطب القاري مباشرة في نهاية الرواية ونفس هذا يحدث في روايات “نوال السعداوى ” خاصة في روايتها ” امرأة عند نقطة الصفر (1975) وأغنية الأطفال الدائرية”(1978)0

وإذا كانت نوال السعداوى تمثل جيلاً من التمرد أو الوعي برفض القيد من الكاتبات  أمثال إقبال بركة ، عائشة أبو النور،  هالة الحفناوى ، فإن جيلاً آخر قدمن رؤية متوازنة حين استعدن الذات فتقدمن خطوات نحو الرغبة في اكتشافها آمثال منى حلمي ، سكينة فؤاد وسناء البيسى ، زينب صادق ، ولطيفة الزيات 0

(3)

هكذا تبدو الدراسة هنا  محاولة نقدية : لقراءة وعى الكاتبات المصريات منذ مطلع العصر الحديث في مصر (1888م) ،أى منذ كتابات عائشة التيمورية” كمحاولة لرأب هوة الوعي بالذات لديها و مقدمة ، “لإضاءة بعض المناطق المعتمة في الذات العربية. بصفة عامة.

وقيمة الوعي بالذات مقدمة لاستردادها وهى محاولة توازي الوعي “بالأنا” كمقدمة لاسترداد الهوية ، أو الذات الأنثوية ، عبر التنقيب عنها ، والتأريخ لها برصد نشاطها الأدبي سواء أكان شعراً أم نثراً !..

لذا فدراسة الأعمال الأدبية – للكاتبات المصريات – في هذه الفترة المبكرة من عمر حضارتنا الحديثة، يمكنه أن يمدنا بنبض الحياة العاطفية للمرأة المصرية ، ” فالعمل الأدبي يكون بمثابة إعلان عن الذات … لأنه بمثابة الحوار الخلاق بين مقتضيات الواقع والعالم الشخصي الذاتي الداخلي ، فمهما بلغ العمل الأدبي من واقعيه ، فإنه لابد وأن ينطوي على عنصر ذاتي ، وإلا فسيكون مجرد سرد تاريخي ولا يندرج تحت قائمة الإبداع الأدبي” (2).

والملاحظ أن التاريخ الأدبي المصري – في صورته الحالية – مبني على كتابات الكتاب الرجال ، بمعنى أن نهضة الرواية الفنية “والتي بدأت مع إرهاصات ثورة 1919 برواية ” زينب ” (1914) لا توازيها نهضة فنية للرواية النسائية إلا مع إرهاصات ثورة يوليو (1952) ، حين ظهرت “الجامحة” (1950) لأمينة السعيد ، ثم تلاها “دموع التوبة لـ ” صوفي عبد الله ” (1959) ، واللتان تمثلان قمة النضج الفني للرواية الرومانسية التي وصلت إليها القاصة     المصرية” (3).

وإذا كان وضع المرأة المتخلف – في مجتمعنا – سبباً في تخلف الأدب القصصي ، والروائي في مصر بل “كانت قلة مشاركتها في النشاط الإيجابي لحركة المجتمع ، وتزمت التقاليد ، التي لا تعترف بتحرير المرأة، ولا بشرعية الحب ، من أهم الأسباب التي تكمن وراء انقطاع الرواية في الفترة التي تلت ظهور رواية ” زينب ” لهيكل ” ، وحي سنة 1931″ (4). ” فما بالنا بالرواية التي تكتبها المرأة التي تعيش في مثل هذا الإطار الضيق من الحياة ، وهل يمكن أن تبدع فناً يساير عصرها، وأبناء جيلها”(5) خاصة وأن ” الكتابة عملية فردية عالية المستوى، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالظروف الاجتماعية ، أي أنها تعتمد على درجة حرية الفرد في المجتمع” (6) .

وإستراتيجية الباحثة –– تكمن في التعامل مع الكتابة كفعل تحرر وخروج، ووعي، كما ترى أن العائق عن الكتابة – إن وجد – فإنه يكمن داخل الذات أولاً، ولكن ترى بالنسبة للكاتبات المصريات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر – هل تمثل العائق عن الكتابة في داخل الذات أم خارجها؟..

وإذا كانت “علاقات السلطة هي التي تحدد الشكل الأمثل لإعادة إنتاج الخطاب ” (7) ، فما هو موقع المرأة / الكاتبة في مجتمعها ، وثقافتها، حينئذ ؟ ترى هل كانت في موقع يؤهلها للإنتاج الأدبي أو الابتكار والإضافة أم كانت في موقع التلقي والاستهلاك ، وإعادة الإنتاج ؟..

وإذا كان الأدب يعد “وظيفة دفاعية سوية ، حيث يكون التسامي هو العملية المؤدية مباشرة إلى الإبداع ، أي السعي نحو غايات مقبولة اجتماعياً ” (8) ترى هل كان الأدب هو ذات الوسيلة بالنسبة إلى الكاتبة المصرية، أي كان وسيلة تحقق وحضور وتسامي ؟ وهل استطاعت أن تحقق به ما كان من الخطر “أن تحققه بالفعل على أرض الواقع ؟ ..

تلك هي تساؤلات جوهرية  لفترة مبكرة من عمر الكاتبات المصريات لتبين حقيقة عطائهن وماهيته في واقع الحياة الأدبية المصرية ، فترة النصف الثاني من القرن التاسع عشر ؟

***************

ومصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت هي قلب الثقافة للعالم العربي ، وفيها نشأت شعلة الوطنية والإصلاح ، حيث ظهر المصلحون الليبراليون ، والإسلاميون ، أمثال : ” قاسم أمين ” ، و ” لطفي السيد ” ، و “محمد عبده ” ، وفي الخط الموازي لهذا التطور ظهرت مجموعة من الكاتبات المصريات – في نفس الحقبة الزمنية – زاولن مهنة الأدب من خلال الصحافة ، وكن صدى للصيحات الإصلاحية التي أطلقها المصلحون حينئذ عن حق المرأة في التعليم والعمل والخروج إلى الحياة العامة ، فبدأن فيما بين 1886 وحتى 1925 بالكتابة في الصحف المصرية ولعبت الصحافة حينئذ دورا حيويا في مساندة هؤلاء الكاتبات وغيرهن حيث ” كان هناك ثماني عشرة مجلة نسائية فيما بين 1900-1914 ” (9) .

ولقد شجع المناخ الثقافي المنفتح على الثقافة الغربية في مصر – آنذاك – الكاتبات العربيات على الهجرة إليها من مختلف أقطار العالم العربي – خاصة من فلسطين وسوريا ولبنان – حيث اندمجن في العمل الصحفي وهو أمر مكنهن من تجاوز غربتهن أو شعورهن بأنهن أجانب ، مما يسر لهن الاندماج في المجتمع المصري ، ومن أمثلة هؤلاء الكاتبات: ” زينب فواز ” (1860 – 1914) ، و “وردة اليازجي ” (1838-1924) ، ” مي زيادة ” (1886 – 1941) ، ” لبيبة هاشم ” (1882 – 1952).

ورغم انحصار معظم الكاتبات – حينئذ – في الطبقة العليا ، ( مثل وردة اليازجي ) إلا أن ” خلفية ” زينب فواز ” كانت مختلفة تماما ، فلقد ولدت لأسرة فقيرة جدا من جنوب لبنان كان عليها أن تذهب إلى مدينة الإسكندرية وهي طفلة صغيرة مع أسرة مصرية للعمل عندها . غير أن سيدتها التي أعجبت بذكائها الفطري هيأت لها فرصة تعلم المهارات الأساسية ( القراءة والكتابة والحساب ) ولقد تعلمت زينب بسرعة من أساتذتها ، ومع الوقت أخذت تتلمذ على يد العلماء المصريين . وهكذا أصبحت نشيطة جدا في قضايا المرأة ، وكتبت بعض الشعر الريادي ، وركزت في مقالاتها على قضايا المرأة ، وأشهر مقالاتها ” الرسائل الزينبية      ” التي اُعتبرت متقدمة على كتاب قاسم أمين “تحرير المرأة ” الصادر في عام 1899 . وحينما أسس جورجي نقولا مجلة ” الحسناء ” كانت زينب من أول من نشر فيها . وكتبت أيضا روايتين أولهما : ” الملك قورش ” ، وهي رواية تاريخية رومانسية تنقد ظاهرة الرق خلال الحكم الفارسي لميديا ، والأخرى :” حسن العواقب ” أو ” الغادة الزاهرة ” (1899) ، وكذلك مسرحية غير منشورة من أربعة فصول : ” الهوى والوفاء ” (10) .

أما ” وردة اليازجي ” ( الشاعرة السورية ) فقد انتمت لأسرة أرستقراطية وتميزت بمحاولاتها تجديد اللغة العربية كما تميزت بموهبتها الشعرية التي بدأت معها من سن الثالثة عشر حيث استئنفتها بأشعار المناسبات والرثاء في سنين شبابها وكللت مجهودها بديوان ” حديقة الورد ” كأول كتاب مطبوع يصدر لأمرأة عربية حينئذ .

أما ” مي إلياس زيادة ” فقد ارتبطت شهرتها بصالونها الأدبي الذي كان مقصد كبار رجال الأدب والسياسة وجمعت مي زيادة إلى جانب موهبتها القصصية موهبة في النقد ، إلى جانب امتهانها الصحافة ، ونشاطها في الترجمة عن اللغات الأجنبية إلى العربية ، وقد لاقت مي كثيرا من التكريم في حياتها وبعد وفاتها حيث لقبت بـ ” رائدة الأدب النسوي ” ..

ومن الوجوه المصرية النسائية التي اشتهرت بالصالونات الأدبية الأميرة ” نظلي فاضل” صاحبة أول صالون أدبي نسائي في مصر ، و ” ليلى هانم ” التي كتبت رواية بعنوان ” أمينة ” باللغة الإنجليزية ، ثم ترجمتها إلى اللغة العربية ، ونُشرت في المقتطف سنة 1901 . كذلك ” ملك حفني ناصف ” والتي لقبت بـ “باحثة البادية” ، نظرا لكونها من بيئة بدوية ، حيث كانت زوجة ثانية لرئيس قبيلة، كما كانت أول سيدة مصرية تحصل على شهادة التعليم الإبتدائي عام 1893 حصلت بعدها على دبلوم المعلمين عام 1900 . وعملت بالتدريس ، لكنها كانت تكتب مقالات في الصحف المصرية تناولت فيها قضايا المرأة والحرية الممنوحة لها

وهذه الوجوه النسائية العربية والمصرية أسهمت في إثراء الحياة الأدبية المصرية ، بعطائها للنساء مجالا للحضور الأدبي والمشاركة . ولكن ظلت “عائشة التيمورية ” (1840 – 1902) نموذجا فريدا لبداية النهضة الأدبية للمرأة المصرية ، وصفتها ” مي زيادة ” : ” بأنها البارق الأول أو الشعاع الأول في ظلام الحالة    النسائية ” (11)  وتعتبرها ” مريم كوك ” في دراستها عن الكاتبات العربيات : ” في مقدمة الكاتبات وأفضلهن ” (12) ، وذلك بسبب استطاعتها أن تعي ” حقها في التعبير عن ذاتها وعواطفها ، وأن تخرق التقاليد الشعرية الثابتة في عصرها من جهة ، وأن تمزق خدرها الاجتماعي الذي فُرض عليها من جهة أخرى ” (13) . “فعائشة” تعبر في مقدمة مؤلفها القصصي ” نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال ” (1888) عن كمدها أو حزنها الناجم عن عزلها ، تقول موضحة ذلك ” وبغض النظر عمن ينتقدني لهذه الفقرات التي أكتب عنها ، يجب عليه ، أن ينظر إلى أن هذه العزلة هي أعظم الأعذار ” (14) .

وبذلك وضعت ” عائشة التيمورية ” يدها على جرح المرأة المصرية وإشكاليتها الوجودية – حينئذ – والتي رأتها أنها تكمن في العزلة، فالمرأة الكاتبة مهما تميزت طبقيا أو اقتصاديا تنتزع عزلتها هذا التميز فمسألة عزلة النساء واضطهادهن بوصفهن نساء تشمل كل الطبقات، وانتقاد ” عائشة التيمورية ” لوضعية النساء حينئذ يوحي بزيادة الوعي بالظلم الواقع على هؤلاء النساء ، لا لسبب ، سوى أنهن نساء .

وإذا كانت ” عائشة التيمورية ” هي ” الأولى التي طالبت بالمساواة بين الجنسين ” (15) ، فإن ” ملك حفني ناصف ” أوضحت في مقالاتها أن ” الجنس يتم تشكيله وفقا للرؤى الاجتماعية ” (16) ، وهي دعوات توشي بوحدة الخطاب بين هؤلاء الكاتبات ، لكنها رؤية مستنيرة بالإسلام ، أي أنها رؤية محافظة على الهوايات الدينية والقومية والثقافية .

إن القراءة لإنتاج أديبات مثل : ” عائشة التيمورية ” (1840 – 1902) ، و” زينب فواز ” (1860 – 1914) ، و ” لبيبة هاشم ” (1882 – 1952) جدير بأن يكشف النقاب عن ذاك الأسئلة ، وتلك ، مقدمة لاكتشاف وعي الكاتبات آنذاك عبر كشف النقاب عن حقيقة انتاجهن أدب خاص بهن ، أم إعادتهن انتاج كتابات الرجال آنذاك ؟..

=*=*=*=*=*=*=*=*=

هوامش الدراسة
(1) المزيد من التفاصيل راجع : صورة في القصص النسائي (القاهرة – المجلس للثقافة 2006 – )
2- المزيد من التفاصيل راجع د. سوسن ناجي رضوان : المرأة المصرية والثورة (دراسة نقدية للرواية النسائية في مصر) ، (القاهرة – المجلس الأعلى للثقافة – 2003).
3- نفسه ، ص 21.
4- د. طه وادي : صورة المرأة في الرواية المعاصرة ، القاهرة ، دار المعارف ، ط3 ، 1948 ، ص 21.
5- سوسن ناجي : المرأة المصرية والثورة ، ص21.
6- Madeline chapsal, Feminine plural-present, New York Times Book Review, 12 March, 1967.
7- محمد العباس : سادنات القمر ، سرانية النص الشعري الأنثوي ، ص172 ، (بيروت – الانتشار العربي – 2003).
8- د. سامية حافظ حسن الختام : دراسة كشفية لبعض جوانب البناء النفسي ص 21 ، (جامعة عين شمس – كلية الآداب – رسالة دكتوراه – 1982).
9- انظر مارجو بدران : النسويات والإسلام والأمة ، ( جامعة برنستون – الولايات المتحدة – 1995 – مراجعة شرين ابو النجا
10- مريم كوك : الكاتبات العربيات ، ترجمة أبو بكر باقادر ، ص 630-631        ( الأدب العربي الحديث : تحرير عبد العزيز السبيل – النادي الأدبي الثقافي – جدة – المملكة العربية السعودية – 2002م ).
11- لمزيد من التفاصيل راجع : ألفت كمال الروبي : مي زيادة والنقد النسائي مجلة ألف ، الجامعة الأمريكية – القاهرة – ع 19 ، 1999 ، ص149.
12- مريم كوك : الكاتبات العربيات ، ص629 .
13- ألفت كمال الروبي : مي زيادة والنقد النسائي ، ص154 .
14- عائشة التيمورية : نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال ، المقدمة ( القاهرة – المطبعة الهندية – ط1- 1888 ) .
15- مي زيادة : عائشة التيمورية ، شاعرة الطليعة ،  ( بيروت – مؤسسة نوفل – ط2 – 1983م ) .
16- انظر : مارجو بدران : النسويات والإسلام والأمة .

***********

Share