السيدة الجلية د. هدي النعيمي

يتصاعد التصفيق عند دخولك القاعة المكتظة بالكراسي والبشر ، ببطء تتحرك قدماك وسط الأكف المصفقة ابتسامة هي ربع ابتسامة هذه التي تعلو وجهك الشفاف لم تنزلي ذراعك الأيمن سريعاًُ وأنت تلوحين للجميع البشري .

كالمسمار تقفين أمام الصف الأول تنظرين إلي هؤلاء الذين تجمعوا كي يصفقوا يصفقون ، طويلاً حتي تحني رأسك وتضمي كلتا يديك إلي صدرك جذع جسدك المتلفع بالسواد تقفين كالمسمار إضاءات كثيرة برقت وأنت علي ذلك الوضع لا تهدأ كاميرات التصوير والأكف المصفقة حتي تقرري أنت ترفعين رأسك وتنزلين يديك وتتقدمين يرافقك السيد الوزير والسيدة حرمه إلي مكانك المعهود في صدر القاعة مازالت إضاءات التصوير تلمع بين حين وآخر من صوب مرة ومن صوب آخر مرة أخري .

حتي عندما بدأ الوزير كلمته ورفع يده يلوح وعندما علا صوت مع ذكر اسم الزعيم الراحل وأشار إلي صورته التي تغطي مساحتها خلفية المسرح الكبير عندها برق في عينيك مباشرة ضوء لا ينقطع استمر دقائق ..مشاهدو الشاشة الصغيرة لهم الحق أيضاً في تحليل ابتسامتك الربعية الضائعة بين شفتيك والوجنة.

صفقت في كبرياء عندما أنهي الوزير كلمته وعندما صعد إلي المنصة آخر قيل إنه صديق الزعيم ورفيق دربه .. لكنك لم تريه إلا بعد أن رحل الراحل ..وخرجت إلي عالمك أسماء كثيرة تنحني أمامك بإجلال ، ومازالت تنحني أمامك بإجلال هشرين عاماً لم ينته الإنحناء ولم يتوقف التصفيق ولم تهدأ عدسات الكاميرات ولم تسكن الميكروفونات الصغيرة .

في كل عام في مثل هذا اليوم يتذكرون .. ينحنون يصفقون تلمع الأضواء وتتحدث الميكوفونات تتوشحين سوادك الدائم وتقفين كالمسمار أمامهم ليمارسوا طقوسهم السنوية الآخر علي المنصة أسقط علي الخلفية شاشة بيضاء ضخمة وأشعل فلماً سينمائياً ، إحدي خطب الزعيم الجماهيرية من أجل الحرية والعدل .

كان اليوم الرابع لزواجك منه قال : عليك بانتظاري في البيت حتي أعود قدأعود ليلاً وقد أتغيب أسبوعاً في الخارج غاب شهراً وعاد يحمل عشرة أعوام فوق أعوام الخمسين ، حملتها معه برضا بسعادة كتلك التي تفجرت بداخلك يوم امتدت يده القوية إلي جهاز التسجيل الصغير فأغلقه ثم نظر إلي عينيك . مباشرة : “هل توافقين علي الزواج مني ، كان تحدياً أمام رئيسك أن تقنعي الزعيم بالحديث لمجلتك المتواضعة فما يكون موقفه إذا عرف أنك أقنعته بالزواج ؟ ما يكون موقف أمك وأبيك ولمياء صاحبتك المتزوجة قريبا من ابن عمك ؟ ما موقف تلك الجماهير عندما تتأبطين ذراعه وهو يشعل فيها نار الحماسة من شرفته العالي ؟ عليك أن توافقي لتعرفي الموقف القادم  .

لكن صورة فوتوغرافية لم تضمك وإياه إلا عندما دخل صندوقاً خشبياً ملفوفاً بعلم ودخلت  أنت ثوباً أسود ما زلت تتحركين بداخله .

عامين ونيفاً كنت زوجته التي لا يراها أحد ، وعشرين عاماً أرملته ، ملك الجماهير التي أحبته وحملته علي أكتافها وخرجت تحمل صورته وتصرخ وتهتف باسمه يوم مات  ، ثم أطلقت اسمه هذا علي جمعيات خيرية ومؤسسات عامة وخاصة ، وصار لا سمة الذي ما زلت تحملينه شارع وميدان في وسط المدينة الميدان يحمل تمثالاً في ضعف حجمه الطبيعي في موسم الذكر العاشر أزيح الستار عن تمثاله صنعه مثال شهير من دولة صديقة كلف بذلك رسمياً من حكومته عمل فيه لأكثر من عام فجاء مطابقاً لواقعه الذي كان بشكل كبير يومها صفقت لك الجماهير كثيراً والتقطت عدسات الكاميرات صورتك وخلفك التمثال صفقت الجماهير كثيراً ليس للمثال ولكن للتمثالين أنت وزوجك الراحل صفقت لتمثالك الذي يدعي الحياة وتمثاله الذي يدعي الموت .

يوم قال له إنني ماخلقت لأموت صدقت ، أنه لن يتركك وحيدة وأنه سيعيش معك إلي آخر العمر وعندما رحل ظننت أنه كان يكذب ، ثم اكتشفت أنه لم يكذب أبداً وأنه معك داخل ثوبك الأسود ملتصق دوماً بجلدك لا ينتزعه الشمع الساخن ولا يذوب مع رغوة الصابون ، وأنه غير مسموح لك بإسقاط صورته من الذاكرة كما سقطت صورة أبيك وخالك ، واقتربت صورة أمك من السقوط اكتشفت أنك الميراث الحي الذي أعطاه لشعبه ليبقي حياً .

عندما دلك الطبيب الأعزب “ياسر ” علي تلك الحقائق غضبت عندما أمسك بيديك ليضعها علي الحقيقة لتقرئيها علي طريقة بريل غضبت صرخت في وجهه أن يكف .

قلت أن وطنيتك فوق كل اعتبار وإن حملك لاسم الزعيم الراحل حتي الآن دليل ذلك وأنك سعيد وراضية بما تفعلين وإن كونك السيدة المبجلة في بلدك يعادل أي تضحية في سبيله لكنكلم تستطيعي النوم تلك الليلة ولا الليالي التي أعقبتها واتصلت بلمياء لتأتيك بعلبة سجائر .. لمياء الوحيدة التي تعرف أنك تدخنين وأن السيجارة الأولي … أشعلها لك المرحوم وقهقه كثيراً مع سعالك الحاد.. جاءت لمياء ومعها علب السجائر وعلبة ملونة أخري ، هدية لك من أبنها الذي صار طالباً في السربون .. في العلبة ذات الغلاف الملون تسكن قبعة من الدانتيل الأسود ووردة سوداء يتدلي منها شريطان من الساتان حتي نهاية العنق قالت إن هذه تصلح لتحضري بها افتتاح دار الأيتام بعد غد .

كان الطبيب ينظر إلي القبعة وإلي عينيك التي تبحث عنه بين المصفقين وجدته ، أشرت له برغبة في لقاء آخر أسعدته الرغبة تحدث عن الرغبة التي تسكنك ككل امرأة وعن حقك في اشتعال الرغبة تحدث عن الضريح الذي دخلته أنت ليخرج منه الزعيم تحدث عن وجهك الصافي الذي لم ولن تزوره التجاعيد وعن الشعيرات البيضاء التي ستختفي سريعاً عند هجوم الحناء أو الصبغة تحدث عن جزيرة نائية تحلو فيها الحياة وعن أناس يقدرون معني الحياة تحدث كبيراً لم تغضبي منه لم تصرخي في وجهه ولم تقلبي الطاولة ضحكن علي نكتة ظريفة ثم ضحكت أكثر علي نكتة أخري أكثر طراف وعندما لامست أصابعه يديك – عفواً وعمداً – جفلت ارتعشت اشتبكت الرؤي وغاصت الكلمات فطلبت مغادرة المكانولم يمانع .

لم تكن اللقاءات كثيرة ..بل قليلة وغزيرة ثرية تكفي ثانيتهما لأن تعودي إلي بيتك تغنين .. لأول مرة تغنين بصوت مسموع بعد أن تأكدت أن الباب مقفل وتكفي الثالثة لأن تبحثي في دولاب ملابسك عما يليق بلقائه وأن تحتقري المساحة السوداء التي تغطي كامل الدولاب ، وحتي الثوب الأسود الحريري الذي تسلل من بين نسيجه خيوط فضية اللون لتسقط لمعانها علي باقي الثوب لم يكن مقنعاً بشكل كبير لا لك ولا له ، الرابعة كانت كافية لأن تعديه بخلع السواد بعدالحفل التأبيني العشرين وأنك يوم زواجكما ستلبسين ثوباً أبيض كالذي حلمت به طوال عمرك وكالذي حلم به لعروسه طوال عمره . بعد تلك الرابعة عدت إلي البيت ترقصين أغلقت الباب والشباك ورقصت .

فتشت في حاجات الشهر التي جاء بها السائق والتي صارت تخلو من الفوط الصحي منذ أربعة شهور عن كريم الحماية من التجاعيد لطخت به وجهك سألت لمياء عن مدربة الأيرويك التي تذهب إليها طلبت منها أن تأتي بها ثلاث مرات في الأسبوع إليك تشعرين أن وزنك زائد بعض الشيئ وتحتاجين إلي فقد بعض الكيلوجرامات .

وعندما تخبرك الخادمة التي رافقتك الرحلة منذ زواجك الأول بأن ابنتها قد خطبت إلي جارها تتبرعين لها بثمن الثوب الأبيض وسوار ذهبي تمسكين بورقة وقلم ترسمين تخطيطاً كروكياً لفساتين ملونة ستخيطينها وستشترينها من دور الأزياء التي تزروينها دوما لتأخذك البائعة فوراً للثياب السوداء لن تزوري بعد اليوم ذلك القسم الأسود تتذكرين ثوباً أحمر أرتدته نجلاء فتحي في إحدي أفلامها منذ سبع أو ثماني سنوات كنت معجبة بذلك الثوب كثيراً ما أوقفت شريط الفيديو ع الدوران لتتأملي تفاصيله ، تقولين لنفسك نعم ، ثوب نجلاء فتحي سأخيط مثله ، تكتبين الاماكن التي تشتهين زيارتها مع ياسر تصفقين لنفسك ، هذه المر تصفقين لنفسك لا تحتاجين لآخرين للتصفيق تخور قواك من الغناء والرقص والتصفيق وتسقطين في الفراش ، تنامين تتمنين ألا تستيقظي إلا بعد الحفل التأبيني العشرين .

المشهد الأخير من الفيلم السينمائي المعروض علي خلفية المسرح الجنازة الجماهيرية وأنت في يومك الأسود الأول لا تستطيعين البكاء لأنه مثله .. قوية تصعدين المنصة تلوحين للمصفقين تستلمين درعاً جديداً تضمينه إلي تلك الدروع والأوسمة والميداليات التي تجمعت داخل الخزانة الزجاجية في الصالون الكبير .

ينحني لك الوزير والوزير الآخر وتلوحين للجميع مودعه تبتعدين عنهم تدخلين صومعتك من جديد .. تفتحين أدراج المكتب تخرجين الاوراق والرسوم الكروكية ، تتنهدين بشدة تنظرين في الكتالوجات التي جاءت بها لمياء إليك تنظرين إلي الخطوط والدوائر علي بعض الموديلات علي قرط لامع معلق في أذن إحدي العارضات تسقطين الصفحات الملونة وتخرجين علبة السجائر واحدة ، أثنتان ، ثلاث ن يكفي هذالا بل ستكتفين بأربعة الهاتف لا يرن والخطوط سليمة والوعد يؤكد أن تبادري بالاتصال بعد الحفل عاوت الإمساك بكتالوجات الأزياء والأخري التي تبين الجزيرة التي تحلو الحياة بها وجزراً أخري – ما كنت تعلمين بوجودها علي الأرض بأزهار وطيور ما كنت تعلمين أن الله خلقها تتنهدين … تنفثين نفئة من الدخان في الفراغ والباب يقول إن أحداً ما يطرقه .. الخادمة أم العروس .

تؤكدين لها أنك سوف تحضرين بعد قليل تعاودين التنهد تتحرك قدماك للدولاب تقفين أمامه طويلاً تمتد يداك إلي الأمام ثم تعودان إليك تنظرين إلي سماعه الهاتف تمتد إليها يدك ثم تعود تسقطين علي حافة السرير ، لا تشعرين بالسائل الشفاف الذي امتلأت به حدقتا عينيك تخرجين ثوباً أسود بحزام من الساتان وياقة من الساتان المثقب ، تدخلين بداخله .