ملامح شخصية وإبداعية من عالم الكاتب الروسي فالنتين راسبوتين ….. د. أشرف الصباغ

أنا واثق من أن الطفولة تصنع من الإنسان كاتباً وكذلك القدرة في سن مبكرة علي رؤية وملاحظة كل ما يعطيه الحق في الإمساك بالقلم بعد ذلك إن التعليم والكتب والخبرة الحياتية تربي هذه الموهبة وتصقلها في المستقبل ولكنها ويجب أن تولد في الطفولة .

كتب فالنتين راسبوتين ذلك عام 1974 علي صفحات جريدة الشباب السوفيتي بإقليم إرفوتسك .. وهو هنا لا يقصد إطلاقا الانطباعات الطفولية فقط وإنما أيضاً تلك الثقافة والخبرة والمخزون الحياتي التي بدأ الإنسان في تلقيها وفرزها وهضمها منذ وعيه علي الحياة .

هذه الجملة تحديداً يمكن أن نلمحها في قصته القصيرة ماما ذهبت إلي مكان ما التي كتبها عام 1965 فالطفل الصغير الذي استيقظ من نومه ولم يجد أمه – وأمه – بالذات – بجواره في البيت يبدأ في مراقبة العالم ورصده واكتشافه ولكنه لا يتوقف عند ذلك .. بل يمعني في تعميق الرؤية حين ينفصل عن هذا العالم يكسر الحواجز والأطر – بالمفهوم الدرامي المسرحي – ويأخذ في إلقاء نظرة كونية شاملة علي الموقف من بعيد أي من جهة أخري ، ثم يعود بعد لعبته الطفولية البسيطة ليدخل ثانية إلي حياته – إلي عالمه الطفولي البسيط بعد أن أدرك علي مستوي الخبرة بعض الأشياء والأحاسيس المهمة مثل الخوف والوحدة وهي الأمور التي لا يدركها فقط الصغار وإنما الكبار أيضاً ولكن هناك فرقاً كبيراً في هذا الإدراك بين الكبار والصغار ، حيث تأتي عملية الإدراك هنا ليس عن طريق السن والقدرة علي الحركة والحرية في اختيار التجربة وإنما عن طريق التماس المباشر مع عملية الإدراك نفسها والتقاطع معها .

البــدايات :

ولد فالنتين جريجوريفتيش راسبوتين في 15 من مارس عام 1937 في قرية أوستا أودا علي نهر أنجارا بمقاطعة إرفوتسك بسيبيريا بدأ حياته محرراً صحفياً وفي مطلع الستينيات صنفه البعض ، بعد نشر قصصه الأولي بأنه فتح جديد في الأدب الروسي ذلك الأدب الكوني الصعب الذي ما يزال يحافظ علي ملامحه الخاصة وخطوطه العريضة وقاعدة انطلاقه – بالرغم من تعدد المدارس والاتجاهات وتشابكها أحياناً ، وانفصالها في أحيان أخري – في علاقته بمجمل الأدب الروسي منذ القرن التاسع عشر الأمر الذي يجعل عملية الفرز والتصنيف غاية في الصعوبة بل ويجعل عملية نسب العمل الأدبي إلي مدرسة – نزعة – بعينها ضرب من العبث وربما الاحتيال فقط يمكن أن ننسبه إلي اتجاه ما يستند مهما كان أسمه إلي التربة الروسية الأدبية مميزة الملامح .

أنهي فالنتين راسبوتين دراسته بجامعة إرفوتسك عام 1959 في كلية الآداب والتاريخ وفي الفترة من عام 1958 حتي عام 1966 عمل بالصحافة في كل من إرفوتسك وكراسنويارسك : في عام 1958 عمل مراسلاً لجريدة الشباب السوفيتي وفي عام 1959 بدأ العمل بالتليفزيون ثم مراسلاً لصحف أخري وفي عام 1961 صدرت له أولي مجموعاته القصصية بعنوان “نسيت أن أسأل ليوشكا “وصدرت مجموعته الثانية إنسان من العالم الآخر عام 1965 وفي عام 1966 صدرت له ثلاثة كتب دفعة واحدة تضم مقالاته عن سيبيريا وحياة الجيولوجيين وعمال البناء .

في نهاية الستينيات بدأت الملامح العامة لكتابات راسبوتين تظهر بوضوح وأصبح أحد أهم الكتاب الذين يكتبون عن القرية الروسية  في ذلك الوقت – في نهاية الستينيات – ذاعت شهرة فالنتين راسبوتين في أنحاء الاتحاد السوفيتي بعد روايته الأولي  ” نقود لماريا ” 1967 وبعد ذلك خرجت إلي النور روايته الثانية المهلة الأخيرة 1970 ثم رواية عش وتذكر 1974 .

وفي عام 1976 كتب روايته وداعاً ماتيورا ذلك العمل وضعه علي درجة واحدة مع العديد من الأدباء الروس الذين كرسوا حياتهم وعالمهم الإبداعي للقرية الروسية مهضومة الحقوق في كل العصور والأزمان بهذه الرواية تحديداً وضع راسبوتين اللمسات الأخيرة علي طريق شهرته ليصبح أحد أهم الذين يواصلون التقاليد الأدبية للواقعية النقدية في روسيا ، وبذلك نال جائزة الدولة عام 1977 .

جائزة الدولة للمرة الثانية :

إن شهرة راسبوتين لم تتأت فقط من إبداعاته الأدبية ، ولكن إلي جانب كل ذلك أكدتها مؤلفاته الأخري ، ومقالاته وكتبه التي وضعته علي طريق أجداده المشاكسين الذين كانوا يحشرون أنوفهم في كل شئ مما كان يغضب قياصرتهم ورؤساءهم علي الدوام ، ففي عام 1969 ظهر كتابه  مصيري سيبيريا ثم ذكريات عن نهر 1971 وفي عام 1972 ظهر كتاب إلي أسفل وإلي أعلي مع التيار  ، وربما يكون عنوان كتابه مصيري سيبيريا هو الذي يمكنه أن يوضح واحدة من أهم الركائز التي يستند إليها الأدباء الروس في إبداعاتهم وفي حياتهم الشخصية إن راسبوتين في هذا الكتاب يتناول سيبيريا من ناحية أيكولوجية ، وليس من سمعتها المنتشرة كمنفي ومع ذلك فتسمية الكتاب بهذا الشكل تدفع إلي التداعي بصورة أو بأخري ، إن سيبيريا تشكل إحدي أهم المعضلات وأخطرها في حياة روسيا منذ ما قبل بطرس الأول وكاترينا الثانية ، وذلك من حيث موقعها وأهميتها وثرواتها التي لم يتم الكشف عنها حتي النهاي ، وهي من ناحية أخري تشكل في وعي الإنسان الروسي مظهراً من مظاهر النفي الذي يمتلك في مخيلة الإنسان العادي والكاتب – علي حد سواء – أبعاداً مأساوية يمكنها ببساطة أن تحيلنا إلي العديد من التداعيات الخاصة بمصائر الكتاب الروس .

إننا نعرف مصائر مأساوية لكتاب كثيرين في العالم ولكن عندما يدور الحديث عن مصير الكاتب الروسي نجد المأساوية صفة عامة أو ركيزة أساسي تجعل هذا الكاتب موصوماً بها حتي النهاية ، وإذا كانت علاقة الكاتب بالسلطة تشكل معادلة صعبة ومعقدة منذ بداية الكون ، فهي في روسيا وبالنسبة للكتاب الروس تشكل حجر الزاوية فهناك من ارتبط أو تماس مع السلطة وتقاطع معها في الطريق ثم أنقلب عليها بصورة كانت ، وما زالت تحير القائمين علي هذه السلطة وهناك من لم يكن له علاقة مباشرة معها ولكنه مع ذلك كان يتحرش بها ، ليس من أجل الشهرة أو الحصول علي مكاسب أو تفويضات ولكنه المصير المأساوي العبثي ، الذي تذكرنابه التراجيديات اليونانية القديمة .

لم يفلت أحد من الكتاب الروس من هذا المصير بداية من بوشكين وحتي راسبوتين وغيره في عصرنا هذا ولكن فالنتين جريجوريفتش يتميز في وقتنا الراهن بمجمل هذه الصفات ، أو علي نحو أدق بهذا المصير ، فهو كاتب غزير الإنتاج وإنسان ذو طبيعة نشطة يمتلك طاقة داخلية جبارة متدفقة تدفعه دوماً إلي الحركة  والخوض في كل ما يهم الإنسان بوجه عام وعلي الأخص ما يهم روسيا والإنسان الروسي وما يرتبط بتأريخهما وهمومهما وقضاياهما ، الأمر الذي دفعه منذ عدة سنوات إلي تأجيل العمل الأدبي والخوض في السياسة بل واتخاذ مواقف حادة ضد السلطة الحالية في روسيا . وهنا لا يمكننا أن ننسي أو نتجاهل أنه كان أيضاً ضد السلطة بدرجة ما في المرحلة السوفيتية وهو علي المستوي الفكري – النظري وربما الواقعي أيضاً – ضد المرحلة القيصرية .

أما الجانب الآخر في طبيعة فالنتين راسبوتين فيظهرفي الهدوء والدماثة اللذين كان يتميز بهما أنطون تشيخوف رغم السخرية المرة والحزينة التي لا تتعارض أبداً مع هاتين الصفتين بما تمتلكان من عمق واتساع ، حتي إنهم يشبهونه في روسيا بمسيح يعيش منفياً في صحراء .

وإذا كان الترحال والسفر والتحرك الدائب والمستمر من صفات الكاتب عموماً سواء كان شاعراً أو روائياً أو فيلسوفاً أو مفكراً فتلك الصفات علي وجه الخصوص تمثل للكاتب الروسي الطريق الأول والأوسع في الحياة من أجل عملية الاكتشاف والتتبع والرصد فبداية من بوشكين وجريبويدوف وتورجينيف وجونتشاروف وديستويفسكي وشيدرين وجوجول وليرمنتوف حتي يسنن ومايكوفسكي وآخرين ، كان السفر والترحال – وأحياناً الهجرة أو المنفي أو الإقامة خارج روسيا – طريقاً للاكتشاف ، وقد استطاع أنطون تشيخوف – علي سبيل المثال أن يضيف بعداً أكثر أهمية في هذا الطريق عندما ركب الكارتة وذهب مجازفاً بحياته إلي جزر سخالين ثم كتب كتابه الرائع الذي أغضب القيصر كثيراً .

هنا يأتي دور فالنتين راسبوتين علي هذا الطريق بالذات فنجده موجوداً في كل أنحاء روسيا في وقت واحد تقريباً ،وخصوصاً في تلك المناطق التي تعاني من المشكلات بكل أنواعها بداية من المصاعب الاقتصادية حتي كوارث الانهيارات والحرائق ،وهو يفعل ذلك ليس فقط من قبيل الواجب والمبدأ أو التحيز للفقراء والمهمشين ولكنه يقوم بذلك وقبل كل شئ لأنه الطريق – المصير – الحقيقي للكاتب الروسي الذي يمثل له قدراً لا مفر منه ، والذي سار عليه أعظم الكتاب الروس في القرون الماضية ولا يزال بعضهم يحافظ – ربما بدون قصدأو حتي بقصد – علي هذا النمط ، وذلك تحديداً ما يجعل راسبوتين أحد أهم الأصوات العالية إذا ما دار الحديث عن روسيا ، والطبيعة الروسية والإنسان الروسي ووحدة روسيا .

إضافة إلي كل ذلك ففي جميع أعماله الإبداعية وحتي في كتبه يوجد عالم روحي خاص حيث تتشكل نماذج أبطاله أساساً بكينونة محددة ، الأمر الذي يجعل فيها الحكم الأول والأخير لضمير الإنسان وعموماً فهذه الخصوصية بالذات موجودة بوضوح في أعماله و المهلة الأخيرة وعش وتذكر والتي تممها بروايته الانتقادية الحادة الحريق عام 1985 ونال بها جائزة الدولة للمرة الثانية .

السلطة ومواقف راسبوتين السياسية :

لدي فالنتين راسبوتين مجموعة من الآراء والمواقف السياسية التي تبدو في ظاهرها متناقضة إذا ما نظرنا إليها نظرة عابرة ولكنها في مجملها تشكل جزءاً مهما في العالم الإدراكي للكاتب وتتكامل مع منظومته الفكرية المعقدة والتي كما قلنا في السابق إنها الركيزة الأساسية والمصير الذي يلاحق الكاتب الروسي منذ القدم ، خاصة وأن راسبوتين لم يتماس أو يتقاطع بصورة عايرة مع السلطة وإنما توغل فيها ومارس السياسة وأتخذ مواقف حادة للغاية وعلي الرغم من كل ذلك فهو يؤكد دائماً علي أنه ليس شخصية سياسية السياسة أمر قذر الإنسان المستقيم – الشريف – لا يجد فيها ما يفعله وهذا لا يعني أنه لا يوجدفيه أناس شرفاء ولكن كقاعدة فهم مقضي عليهم بذلك .

أما الذين يصنفونه بأنه معاد للمرحل الشيوعية في حياة روسيا فيتوقفون كثيراً أمام قوله : ” لقد أعادت روسيا هضم الشيوعية ، ومن ثم وظفتها لخدمة دولتها ” .

في بداية سياسة اليريسترويكا قام ألكسندر نيكولايفيتش ياكوفليف عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي بدعوة راسبوتين إلي مكتبه وكان كل منهما يدرك جيداً مدي العداء المتبادل ولكن المقابل تمت بهدوء لأنها كانت بتوجيهات من ميخائيل جورباتشوف الذي كان في حاجة ماسة وقتها إلي تأييد مساندة الجميع وبخاصة الكتاب ، وراسبوتين علي وجه الخصوص استمر اللقاء ما يقرب من ساعة كاملة ظل خلالها راسبوتين معتصماً بالصمت التام ، وكذلك فعل ياكوفليف ، وفي النهاية قال المنظر الأول للحزب : أعتقد أنكم لن تنتقدونا كثيراً ويبدو أن العبارة كانت تتضمن الكثير من التحذيرات إلا أن راسبوتين ظل صامتاً ومع ذلك لم ينقذه هذا الصمت من انتقاد أنصاره وجمهور قرائه وهجومهم عليه ، وفي نهاية عمر البيريسترويكا ردد راسبوتين في سخرية ومرارة : إنني أتذكر بكثير من الخجل أحاديثي مع جورباتشوف .

في عام 1986 تم انتخاب راسبوتين سكرتيراً لمجلس إدارة اتحاد كتاب الاتحاد السوفيتي وسكرتيراً لمجلس إدارة اتحاد كتاب روسيا السوفيتية ( وما يزال حتي وقتنا هذا سكرتيراً لمجلس إدارة كتاب روسيا الاتحادية ) .

وفي عام 1989 أصبح نائباً للشعب بترشيح من اتحاد كتاب الاتحاد السوفيتي وصار عضواً بلجنة المجلس الأعلي للإيكولوجيا وترشيد استخدام الموارد الطبيعية بالاتحاد السوفيتي ، وبعد انتخاب ميخائيل جورباتشوف رئيساً للاتحاد السوفيتي في المؤتمر الثالث لنواب الشعب قام بتوجيه الأوامر إلي راسبوتين بالانضمام إلي المجلس الرئاسي للاتحاد السوفيتي وظل فالنتين جريجويفتيش عضواً بهذا المجلس حتي تم حله في نوفمبر عام 1990 بعد إنشاء مجلس الأمن القومي .

أما علاقته بالسلطة الجديدة في روسيا فهي متنوعة ومتعددة الأوجه أيضاً في البداية قال راسبوتين عن بوريس يلتسين : ” لقد استدعي هذا – أي يلتسين- إلي الحياة تلك القوي المدمرة التي ساعدته في الوصول إلي السلطة ، وهي نفسها التي تعمل الآن ضده ليساعد الله الرئيس في التغلب عليها ، ولكنه يعود ليردد في موقف آخر : ” لن نتعجب إذا ما صحونا غداً واكتشفنا أن رئيس روسيا قد أصبح – بحجة الجمع بين وظيفتين – رئيساً لشركة ما عابرة للقارات .

وبالتالي ، ففي عام 1992 تم انتخابه بالاجتماع الدوري للمجلس القومي الروسي رئيساً إلي جانب كل من ألكسندر ستير ليجوف وفالنتين فيودروف وفي المؤتمر الأول لهذا لمجلس انتخب رئيساً إلي جانب كل من ستيرليجوف وجينادي زيوجانوف وفي أكتوبر عا 1992 أصبح عضواً باللجنة التنظيمية لجبهة الإنقاذ الوطني وهو حالياً يعد أحد قادة المعارضة الروحية في روسيا .

أما الخطوة الأخيرة التي قام بها رئيس روسيا ولا يخفي علي أحد مغزاها برغم أنه لا أحد يعرف ماذا يمكن أن يترتب عليها فيما بعد ، فهي قيام يلتسين بإرسال برقية بتاريخ 14 من مارس عام 1997 لتهنئ راسبوتين بعيد ميلاده الستين جاء فيها : أنتم أكبر كاتب روسي ، واسمكم مكتوب بحق في تاريخ الأدب الروسي والعالمي وقد أصبحت أعمالكم الأولي حدثاً في الحياة الثقافية والاجتماعية للدولة ، لقد تحدثتم  بشجاع وبصوت ينذر بالخطر عن أصعب قضايا حياتنا والقراءيجدون في أبطالكم أفضل ملامح وصفات الطابع القومي الروسي – قوة الروح والكبرياء والضمير ، وأنا أعرفكم إنساناً حاراً محباً لروسيا وبصرف النظر عن اختلاف وجهات نظرنا فإنا أنظر باحترام بالغ إلي أعمالكم الإبداعية وإليكم شخصياً .

هكذا يجد القارئ والمتابع لحياة الكاتب الروسي المعاصر فالنتين جريجوريفتش راسبوتين مجموعة مهمة من المحاور التي تتشكل منها شخصيته ومنظومته الفكرية ومن الصعب تماماً إصدار رأي قاطع أو حكم نهائي علي الكاتب في ظل صور عديدة من التناقضات التي تحيط به من ناحي ومن ناحية أخري يشارك فيها شاء أم لم يشأ بصورة ربما تبدو له متسقة تماماً مع اقتناعاته الشخصية بينما يري الآخرون في ذلك مسوغات تتخذ ذريعة للهجوم علي الكاتب أو نفي إبداعاته .

أما إذا اقتربنا من فالنتين راسبوتين كروائي مبدع فسوف نكتشف جوانب أخري ربما تكون مكملة للصورة حيث أنه من الخطأ الشديد الذي يقترب من حد التضليل والتعمية أن نقوم بتجزئ الكاتب أو بالتعامل مع عناصر تكوينه بمعزل بعضها عن بعض من يا تري يمكننا وضعه إلي جانب فالنتين راسبوتين ؟ فاسيلي بيلوف ؟ يوري كازاكوف ؟فيكتور أستافيف ؟ سولجينيتسين ؟ بوندارييف ؟ مكانين؟  بيتوف ؟ .. كلهم كتاب روس في غاية الاهمية إلا أن راسبوتين يختلف عنهم جميعاً في أمور عديدة علي المستوي الشخصي والإبداعي علي حد سواء .

فلسفة الأسماء عند راسبوتين  :

يسود اعتقاد يبدو غريباً للوهلة الأولي بأنه لدي أي فنان لابد أن يوجد بالضرورة عمل قد قيل فيه أكثر ما يمكن ، أما الأعمال الأخري لهذا الفنان فتعتبر مدخلاً أساسياً ، أو في أفضل الاحوال مقدمة لهذا العمل حتي وإن جاءت بعده هناك أيضاًُ فرضية أخري ربما تبدو أكثر غرابة وتقضي بأنه لدي الفنان الحقيقي نقابل علي الدوام تلك المسميات التي تحدد بالضبط في عدة كلمات – المغزي الأساسي والمعني الكلي لعمله الإبداعي بالنسبة لفالنتين راسبوتين يبدو كل ذلك طبيعياً وليس غريباً علي مجمل إنتاجه الأدبي ولو تساءلنا في أي عمل يمكن أن نري راسبوتين قد قال أكثر ما يمكن فسوف تقفز الإجابة تلقائياً من بين طيات عالمه لتعلن عن روايته عش وتذكر وإذا تساءلنا : أي تسمية من التسميات استطاعت أن تحدد المعني الأساسي لإبداعاته فسوف يتعين علينا التكرار : ” عش وتذكر ” كلمتان فقط تعبران عن مجمل العالم الإداركي للكاتب.

إن راسبوتين في مسميات أعماله الإبداعية يبدو انتفائياً ودقيقاً لأبعد الحدود وفي كل تسمية يمكننا أن نلمس شيئاً ما روحياً ، مقدساً ، ثقافياً ، دينياً تراثياً ، والمدهش أن كلا من هذه الأشياء يمكن أن نضع وراءه كلمة ، روسي لنكشف لي الفور أن العالم الروحي ، المقدس ، الثقافي ، الديني ، التراثي ، هو روسي في الأصل عند فالنتين راسبوتين وذلك يعني أن العالم المدرك لدي الكاتب يقف علي قاعدة الأدب الروسي الصلبة التي استطاعت أن تشكل تربة شديدة الخصوصية في إطار الأدب العالمي وبرغم كل ذلك وبرغم ما تبدو عليه روايته عش وتذكر من مخالفتها النسبي للتفسير السابق فإنها – مع ذلك – ترن في الأذن كتعوذية أو ربما كتحذير ديني مثل تحذيرات الإنجيل ووصاياه :وتذكر خالقك في شبابك حتي لا تأتي الأيام الصعب ،وحتي لا تأتي السنوات التي ستقول فيها : ” ليست لي فيها
لذة ! “إنها تسمية تبدو في نهاية الأمر كرنين الاجراس ، وقرع نواقيس الخطر .

ذاكرة الماضي والمستقبل :

عش وتذكر والذاكرة عند راسبوتين ليست فقط في أو عن الماضي إنها جزء من الحاضر والتذكر كعملية غير محدد ولا يسير في خط مستقيم ومباشر إنه عملية متفردة تخفي الكثير من  التفاصيل والذرات الدقيقة غير المرئة تقلص أشياء تبدو وكأنها لم تحدث ، وتضخم أشياء أخري تبدو وكأنها قد حدثت لتوها أو ربما ستحدث الآن ، أو بعد قليل ولكي نتجنب أهوال الذاكرة الانتفائية فلابد وأن نعتصم  بشئ ما دائم ومتطور وفعال بشئ روحي في عمومه يبعدنا عن العصبية واستخلاف الآلهة في الأرض ويقربنا من الإنسان لنكتشف عظمته وعبقريته حتي في أحلك الظروف أناه الثقافة بمعانها الواسع والعميق الثقافة – ذلك المصدر الدائم لعملية التطور والإنماء علي المستويين المادي والروحي ، الثقافة – كذاكرة إنسانية جماعية للأجيال الماضية والحاضرة والقادمة من هنا يتضح أننا بعد الموت لا نفني ، ولكن فقط نجد أن ذاكرتنا التي كانت من قبل داخلنا في الـ ” أنا ” قد استدارت ، أي عادت إلي الخارج لتتقاطع مع الذاكرات الاخري الخارجية ، ولنكتشف أن الثقاف هي أحد وجوه الديمومة وخصوصاً  الديمومة البشرية وهي ذاكرة حية للأموات – فقط – عضوياً ، وما نحن إلا كائنات تعيش في عمق ذاكر الأجيال الماضية وكلما نسينا ثقافتنا نسيتنا هي الأخري ( ونسينا أجدادنا ) علي الرغم من استحالة ذلك بالنسبة لهم ولنا في آن واحد وهذا هو المعني الفعلي للثقافة ولو علي الأقل من وجهة نظر فلنتين راسبوتين في أعماله الروائية علي وجه الخصوص .

ليس مصادفة أن تأتي معظم – إن لم تكن كل – مؤلفات فالنتين راسبوتين بنهايات مفتوحة مثل بداياتها أيضاً فهو يبدأ وكأن هناك شيئاً ما قديماً قد حدث أو ما زال يحدث أو أن صداه لا يزال يظن في الذاكرة بعد ذلك ينتهي العمل علي الورق ولكن دائماً يظل هناك شئ ما سوف يحدث فلا أحد في رواية عش وتذكر يدري مصير أندريه جوسكوف النهاية مفتوحة تماماً بل ويمكن لأي كاتب آخر أن يكتب رواية كاملة عن مصير هذا الإنسان ، وفي المهلة الأخيرة نظل نفكر ونتألم من من أولاد العجوز (أنا) سيحضر دفنتها : إن راسبوتين يترك الأمر لكل منا علي حد ليواجه نفسه بذلك السؤال .

وفي معظم مؤلفاته نجد ما يسمي بالصلاة الأخيرة أو صلاة الوداع صلاة الوداع لـ ” ناستيا ” في رواية عش وتذكر وللعجوز في المهلة الأخيرة وللعجوز أيضاً في قصته القصيرة الرائعة العجوز وفي قصته لا أستطيع إن صلاة الوداع تلك تشكل لدي راسبوتين صلا مسيحية حقيقية ، وفي ذات الوقت تصوغ – تخلق – أعمق خلايا الذاكرة لأننا إذا تذكرنا الماضي والمفقود والضائع فلربما نستطيع أن نفكر في المستقبل أو علي الأقل في الحاضر ، إن الذاكرة وعملية التذكر مرتبطتان بالفعل وبالحركة الدائبة الدءوبة من أجل فتح ثغرة في الواقع الأصم المهيمن وبمعني أدق ، فالذاكرة لدي راسبوتين لا تقتصر علي عملها الوظيفي – الفيسيولوجي ، وإنما تتجاوه إلي فعل البحث والتقصي والرصد بل وأحياناً إلي البحث في نفسها ، أي البحث في المنهج ، هي العدسة التي نري بها الأشياء وليس فقط البحث في الأشياء ذاتها ، ومن هنا يشغل موضوع الحياة والموت عند راسبوتين أهمية كبيرة لدرجة أنه يكاد يصير موضوعاً قائماً بذاته فلديه دائماً شئ ما يخرج ، أو أحد ما يذهب يحل عن العالم والحياة هناك الكثير الذي يذهب يرحل عن العالم والحياة هناك الكثير الذي يذهب لكي يتذكره الإنسان والكثير الذي يبقي – أيضاً – لكي يفكر فيه الإنسان .

الطبيعة الحية وديمومة الذاكرة :

الطبيعة لدي راسبوتين تلعب دوراً أساسياً في تشكيل وصياغة الذاكرة ليست الطبيعة الجميلة والهواء العليل والثلج الأبيض الجميل من حيث الرؤية الخارجية – السطحية للأشياء إنها الطبيعة الحية الشواطئ المياه السماء الجليد علي الأرض ، الجليد المعلق بين السماء والأرض ، الرياح ، الجبال ، الأنهار الجارية .. لأن جميع تلك الأشياء تمتلك في داخلها طبيعة حية أخري موازية لما نمتلكه نحن في أفكارنا من حركة دائبة فهو يمزج الماء بالأرض بالسماء يعيد تشكيل العالم الطبيعي من أجل اكتشاف وإعادة تشكيل وعي الإنسان ، إنه يكشف حالة الإنسان من خلال كشف حالة الطبيعة الحية ذاتها ومن ثم يخرج روح الإنسان من جسده ويوحدها مع الطبيعة يبثها فيها لتتكشف بعد ذلك كل أبعادها وجوانبها بصرف النظر عن السلبي والإيجابي فالطبيعة لديه أعلي من الحلم وهو يتخذ الحلم طريقاً إلي الاكتشاف والتأمل والتفكير يتعامل مع الحالة المعقدة الواقعة بين اليقظة وغياب الوعي المادي المباشر الذي يتعامل مع الأشياء بصورة مباشرة والذي يتعامل مع نفس تلك الأشياء بأشكالها وصورها الموجودة عليها في اللحظة الآنية أنه يقف في تلك المساح ليرصد الأبعاد الخفية للعالم وللطبيع وللروح الإنسانية التي لا يمكن أن تتكشف في حالة اليقظة أو تظهر حتي بوضوح .

لقد تمكن راسبوتين من التعامل مع هذه الحالة غير الممسوكة واستطاع أن يحرك أبطاله تارة طائرين وتارة سابحين وتار أخري سائرين مغلقي العيون ولكن بوعي شديد ، وبذاكرة حية متيقظة إنه يتعامل مع الطبيعة ليس كخلفي غنية بالجمال فقط وإنما كمنظومة متكاملة معقدة في هارمونيتها وتجانسها الامر الذي يجعلها تكتسب بعداً جديداً آخر وأعمق وأشمل ، فهي لم تلد الإنسان فقط وإنما تتحكم فيه أيضاً علي الرغم من أنها تمنحه في ذات الوقت إمكانات هائلة للفعل وتلك معادلة غاية في الصعوبة والتعقيد وتزيد من صعوبة أبطال راسبوتين في علاقتهم بالطبيعة نفسها .

عجائز راسبوتين والذاكرة الحية :

إن فالنتين راسبوتين أحد أكثر الكتاب الروس الذين تعاملوا مع نماذج الشخصيات العجوزة وبالذات السيدات المرأة بشكل عام عنده تشكل حجر الزاوية تمثل حالة الفعل واستمراريته وديمومته وقوته النشطة المحفظ ولكن المرأة العجوز هي الحكمة / الذاكرة ببعديها الروحي والفيسيولوجي فلديه عدد هائل من العجائز اللائي يحملن ويحفظن في آن واحد العادات والتقاليد الشعبية والصور الشخصية والطبائع الروحية والنفسية وهن في نفس لوقت يرتبطن بموضوع الحياة / الموت / الذاكرة الحية ، حيث نكتشف أن الموت لدي راسبوتين ليس موضوع رحيل وفناء بقدر ما هو موضوع تفكير وتأمل فيما تبقي وعما تبقي وذلك من أجل إعادة تشكيله وتفعيله كموضوع في مقارنة هائلة ومتشعبة مع ما رحل والمقارنة هنا – وتحديداً لدي عجائز راسبوتين ولدي راسبوتين ذاته – ليست من أجل الخروج بنتائج سريعة ، وإنما من أجل فتح آفاق جديدة للآتي الذي لا يعرفه أحد ولكن يمكن تخمينه / تحديده في احتمالات كثيرة وبأوجه متعدد .

أولئك هن عجائز فالنتين راسبوتين العجائز / السيدات البسيطات الممتزجات بكل شئ حتي بالأرض وبالسماء وبالمياه والثلوج بالذاكرة الحية ، بالأحفاد الذين رحلوا وبالأبناء الذين سيأتون وربما العكس ذلك لأن عجائز راسبوتين يتميزون بذاكرة أرضية حية وترمي بظلالها علي الفلسفة والروح والذاكرة ، فإحدي عجائزه تنادي الأحفاد بأسماء الأموات تخلط الأزمنة لتصنع زمناً جديداًخاصاً يتواصل فيه كل شئ ويتشابك علي نحو يجعله متغلغلاً وراسخاً في الذاكرة وتفعل ذلك ليس بحساب الأيام والسنوات وإنما بالخلط بين الأحياء والأموات ، بين أسائهم وبين زمن الحياة وزمن الموت ، ولكن حياة وموت من ؟ ومن هؤلاء الأموات والأحياء بالنسبة لها ؟

أما العجوز الأخري فهي علي فراش الموت لم تعد ساحرة كما كانت في الماضي بل أدارت ظهرها منذ زمن بعيد لأعمال السحر الجميع يعشقونها لأنها تعشق العمل والصيد وتربية المواشي ولكن ما الذي يعذبها ويضنيها قبل الموت؟أنها لا تخشي الموت إطلاقاً لأنها نفذت واجبها الإنساني ولأن ذريتها استمرت وستسمر ولكن هذا التواصل البيولوجي غير كاف بالنسبة لها ، وبرغم انها تري أن السحر لم يعد وظيفة فإنها في ذات الوقت مؤمنة تماماً بأنه جزء من الثقافة ومن التراث من الموروث الشعبي إذ أنها كانت تعالج الناس أيضاً بالأعشاب كانت تمارس التطبيب بوسائل شعبية من الطبيع الحية ولذلك ينتابها الخوف ويتلبسها عذاب شديد قبل الموت ففي رأيها أن الإنسان الأخير في ذريته الإنسان الذي تنتهي به الذرية إنسان بائس وشقي ولكن الإنسان الذي اكتسب من شعبه ومن ناسه ثروتهما التاريخية ثم حملها معه إلي القبر دون أن ينقلها إلي الآخرين هو …؟؟؟إنها تعجزعن وصفه في القصة !!

العلم والفلسفة والروح :

إذا كانت عجائز راسبوتين يجتهدن بذاكرة أرضية في صنع زمن خاص جديد من خلط الأزمنة الماضي والحاضرة والقادمة تتشابك فيه كل الأشياء ، فإن راسبوتين نفسه يقوم بتأسيس أزمنة جديدة يفتح فيها نافذة للمراقبة والرصد وولادة الأسئلة الجديدة أيضاً أنه يتعامل مع العلم والفلسفة بمنطق خاص ، ويؤمن بأن الظواهر الغريبة موجودة رغم غرابتها لأن العلم – ببساطة – لم يتوصل بعد إلي تفسيرها وإيمانه هذا نابع في الأساس من تعامله مع أبطاله علي محورين أساسيين:

الزمن والقوة واعتقاده الراسخ بأن العلم هو الوسيلة الوحيدة القادرة علي حل كل ما نراه غريباً وغير عادي من خلال كل ذلك يقوم بوضع الإنسان أمام نفسه في مواجهة روحية عنيفة ففي المهلة الأخيرة نقف أمام لوسيا في حيرة وعجز شديدين لا نعرف ولا نستطيع أن نعرف أي شيئ عما يدور بداخلها ولا عن تلك القوة الانتقامية الغريبة المسيطرة عليها .

وهنا يبرز تساؤل : هل يمكن تفسير تلك الحالة ؟ نعم يمكن تفسيرها ولكن ليس إلي النهاية لأن الطبيعة الإنسانية ما تزال مستعصية علي الفهم حتي النهاية فما بالك بأمنا الطبيعة ؟!! ومن ثم نعود مرة أخري إلي العلم والعلم فقط ، وكما قال ألبرت إينشتاين في زمنه : العلم ليس كتاباً منتهياً ولن يكون كذلك أبداً كل نجاح مهم يحمل في طياته أسئلة عديدة وكل تطور يكشف مع الزمن الكثير من الصعوبات الجديدة الاكثر عمقاً وتعقيداً ، من هنا ندرك لماذا تأتي البدايات والنهايات عند راسبوتين مفتوح علي الدوام .

ومن ناحية أخري نري أن لديه ميلاً واضحاًُ إلي التأمل والتحليل والربط بين الثنائيات المعروفة : الإنسانية والفرد الحياة والوجود ، المادي والروحي ، القسوة والرحمة ، الخير والشر ..وتلك القامات الأخلاقية مجسد بتفاوت في نماذج أبطاله  وسلوكياتهم هناك روايات كثيرة تهتم بالحركة : حركة المشهد حركة الأبطال حركة الفكرة حركة الزمن ، وروايتا أخري تركز علي ديناميكي الحركة وتغير الموقف ،ولكن النص لدي راسبوتين مغاير من حيث تشكل حركة الروح التي تمثل الهم الأساسي والرئيس بالنسبة له ، وكلما كانت حركتها أقوي وأشد وأنشط ، كانت الحياة أكثر درامية ولذا فهو يطرح أسئلة خاصة ربما تبدو بسيط في ظاهرها مثل :لماذا تسبب بعضنا لبعض المتاعب والمعوقات التي تجلب لنابدورها التعاسة والشقاء والألم ؟ وإلي أي مدي سيظل الناس غرباء بعضهم عن بعض ؟وهل يمكن أن نعيش في راحة وهدوء وسكينة في حين أننا نعرف تماماً أن هناك إنساناً ما غير بعيد عنا يعاني ويتعذب ؟ لماذا نحاول بقدر ما نستطيع الاستفادة من مصائب الآخرين واستثمارها؟ وإلي متي سنظل نري في الشر تحديداً عدم وجود شر ؟