أغسطس 3 2012
الشعرية وانفتاح النصوص ………… د. خيرة حمر العين
الشعريــــة وانفــتاح النصــوص – تعددية الدلالة ولا نهائية التأويل
د. خيرة حمر العين – جامعة وهران ـ الجزائر
1 ـ النزعة العالمية للتأويل
ارتبط مفهوم التأويل في بداية التأسيس بالتأويل الرمزي أو الباطني الذي كان يهتم بتفسير الكتب المقدسة ، وقد تطور هذا المفهوم ليشمل الثورة المنهجية التي رافقت تحول الوعي النقدي ، وتصبح بذلك الهرمينيوطيقا أساسا منهجيا ونظريا لكثير من القضايا الفكرية والأدبية . وقد شكل تحليل النصوص الأدبية ، وتفسيرها محورا جوهريا لامتحان خصوصية التأويل من حيث كونه إعادة بناء وتصور للمعنى وليس بوصفه بحثا عن معنى .ومن ثم فإن دور المؤول لا ينحصر في مطابقة مقاصد المؤلف وإنما يكمن في البحث عما يجعل من نص ما أدبيا ، أي في الخصوصية الأسلوبية والفنية التي تمنح عملا أدبيا صفة الأدبية . ولأن مثل هذه الخصوصية لا تتحقق إلا بالقراءة والتأمل والظن والمكاشفة ، نظرا للحقل الذي تنتمي إليه حيث لا مجال للدقة العلمية بقدر ما هو مجال للدقة المنهجية . وقد تتحقق النظرية التأويلية في تحليل النصوص الأدبية وفقا لاتجاهات نقدية مختلفة منها ما يتصل بجمالية تلقي النصوص ، ومنها ما يتعلق بتعددية الدلالة ، انفتاح النصوص ، ولا نهائية التأويل .
وفي هذا الشأن يرى غادامير أن إعادة بناء الشروط الأصلية ومحاولة استعادة المعنى الأصلي هي محاولة فاشلة . فما نعيد بناءه ليس الحياة الأصلية ، والتأويل بمعنى استعادة المعنى الأصل هو مجرد نقل لمعنى ميت . وبذلك نجد أن النزعة العالمية للتأويل تجنح إلى أن تجعل من النقد علاقة توسط بين العلم وفعل القراءة وهي التجربة التي بادر بها فلاسفة النقد الألمان حين فصلوا بين الذاتي والموضوعي واعتبروا المنهج معيقا للحقيقة محاولين تمثل الرؤية الفلسفية اليونانية التي لا تروم حصول الحقيقة وإنما تقوم على التحاور الذي يودي إلى حقائق على اعتبار أن الفكر عند اليونان كان ” ذا طابع ديالكتيكي ، طابع الحوار وفي الحوار يهتدي المشاركون بطبيعة الشيء الذي يفهمونه ، المعرفة إذن ليست قبضا وامتلاكا وحيازة ، المعرفة شيء يشارك في صنعه المتحاورون ، اليونان إذن لا يؤكدون ذواتهم ، اليونان يسلمون عقولهم لما يريدون معرفته. هدا تقرب من الحقيقة لا تقرب من الذات “[1] . وبفضل هذه الاستجابة للفكر الفلسفي اليوناني “يرى جادامر أن المنهج لا يظهرنا على حقيقة جديدة ، إنما يوضح فحسب ـ الحقيقة السابقة المقررة ، كما يؤكد أن الحقيقة لا تنال بفضل منهج صارم متسلط إنما تنال من خلال الحوار”[2]
إن هذه الميكانيزمات الجديدة هي التي طورت النزعة العالمية للتأويل وجعلت النقاد والفلاسفة يهتمون بتأويل الظواهر ، لا وفق مناهج مستقرة ، ومعدة سلفا ، وإنما عن طريق فتح أفق التساؤل والتحاور على اعتبار ” أن الحوار هو أن نسمح للأشياء أن تظهر نفسها”[3]. لكن كيف تتمظهر الأشياء ؟ وبأي منطق ، إذا اعتبرنا المناهج المقررة فاشلة؟ ” حسب غادامير لا يمكن استنطاق الأشياء وإدراكها بأنماط المعقولية ومشاريع الفهم ، وانتظار المعنى التي نشكلها حول جوهر هذه الأشياء . لا إقصاء الذات والتصورات المسبقة ، ولا إعطاؤها الهيمنة المطلقة في تقويم الأشياء”[4] هذه الوسطية هي وحدها القادرة كما يعـتقد غادامير على ” جعل الحل للمسألة النقدية للهرمينيوطيقا أمرا ممكنا . بمعنى التمييز الذي ينبغي إقامته بين التصورات المسبقة غير الصحيحة التي توجه الفهم ، والتصورات المسبقة غير الصحيحة التي تكون سببا في عدم الفهم”[5]
إن مبدأ الحوار الذي انطلق منه جادامير ، يبرر النتيجة التي تحققت وفقا لهذا المبدأ ، ذلك أن جادامير استطاع تكريس مبدأ المشاركة في تشكيل معنى مشترك [انصهار الآفاق ، وتداخل العوالم ، وتشابك التصورات] . وقد تحول هاجس الحوار إلى حركية فاعلة في تنمية الوعي وتحديد نمطه ، وتوسيع هذا النشاط ليصبح بذلك التـأويل نزعة عالمية على اعتبار أن ” عالمية التجربة التأويلية تعني أساسا مجاوزة ” الأرغانون[الآلة]”المنهجي الصارم والذي لا يؤسس ، بأي شكل من الأشكال ، حقيقة العلوم الإنسانية والتاريخية بإقرار حقيقة متجذرة في التصور والممارسة والتواصل”[6]
وبالقدر الذي يصر فيه غادامير على الحـوار إلا أن الدياليكتيك الذي يرمـي إليه ” ليس جدل الأضداد ، إنه جدل بين أفق المفسر وأفق الثقافة المتحدرة التي تواجهنا وتخلق لحظة من السلب والتساؤل”[7] . وبعبارة أخرى ، فقد عثر جادامير على مستوى للتأويل تصبح فيه اللغة أبعد من مجرد عبارات وقوالب لفظية وعدها محركا جوهريا لما يمكن أن نعتبره عالمية التأويل من منطلق أن ” علاقة الإنسان بالعالم هي أساسا عبارة عن لغة ، أي فهم ، بهذا المعنى يصبح التأويل عبارة عن البعد العالمي للفلسفة وليس فقط القاعدة المنهجية لما يمكن أن نسميه بالعلوم الإنسانية “[8] .
ولعل ارتباط حركة الفهم بإنتاج المعنى وتعدد الدلالات ، زود النقد المعاصر ـ الذي بدأ يخطو باتجاهات فلسفية متعددة ـ بآليات تأملية ليست خالصة ولا منزهة عن الذاتي ، ولكنها تتمتع بطابع حواري تساؤلي يعيد بناء التصورات بمستوى قوة وصرامة التجربة الإنسانية في حساسيتها. وبذلك نستطيع القول بأن الاستقصاء التأويلي الجديد الذي تؤسسه افتراضاتنا لما نعتقد أنه الحقيقة لا يجرد الفهم من أدواته الكلاسيكية لكنه يضيف إليها أبعادا جديدة لا تتفق مع مبدأ المعيار الثابت .
إن الأشياء متغيرة على الدوام وهي ليست دائما كما نراها ، ذلك أن اعتقاداتنا وأفكارنا ليست متطابقة ، ومن ثم ، فإن الجنوح إلى عالمية التأويل يقتضي إعادة ابتناء الرؤية النقدية على أساس “أن عالمية التأويل هي في الواقع ، عالمية البعد الفلسفي وليس مجرد القاعدة أو الدعامة النظرية لعلوم الإنسان ، يتعلق الأمر بتمديد آفاق التأويل كمنعطف حاسم في التراث الإنساني . عالمية التجربة التأويلية تعني أيضا تشكل التجربة الإنسانية في عالم أو فضاء التأويل ، أي التأويل بوصفه الحقل أو الفضاء أو البعد الفني والتاريخي واللغوي”[9]
إن اتساع ميدان الهرمينيوطيقا ليتخذ مستوى النزعة العالمية ، كان نتيجة البحث عن أسس المشكلة الأنطلوجية في مجال العلاقة مع العالم وليس في مجال العلاقة مع الآخر، كما أن من أسباب ذلك أيضا ، هو تجاوز الهرمينيوطيقا الإقليمية المقتصرة على اللغة إلى الهرمينيوطيقا العامة والتي تشمل مختلف مجالات الوجود الإنساني.
أصبح التأويل ، بفضل النزعة العالمية ، صفة ملازمة لكل نشاط نقدي خلاق متجاوزا بذلك كل العقبات والحدود ، وتفرد بالقوة والجاذبية ، وهكذا ، ” وعلى الرغم من كل عيوبه ، يفتح النقد المعاصر آفاقا غير محدودة في حين أن النقد القديم ، برغم كل مميزاته لا يقوم بأكثر من الالتفات إلى الوراء”[10].
2 ـ دلالات التأويل
تعد كلمة هرمينيوطيقا ، والتي تعني فن التأويل محور جدل بدأ لاهوتيا مع تفسير النصوص المقدسة ، واستمر ابستيمولوجيا مع تعدد القراءات النقدية للظاهرة الإبداعية ، وفلسفيا لارتباطه الانطلوجي برؤيا الوجود وتفسير الكون من منطلقات جدلية ، وبرهانية ، ومعرفية، والتأويل في لسان العرب: ” المرجع والمصير ، مأخوذ من آل يؤول إلى كذا أي صار إليه”[11] ويتعلق التأويل بشكل عام بمشكلات الفهم والتفسير ، وارتباط كل ذلك بالفلولوجيا ، وإشكالية القراءة ، ونقد النصوص . أما بول ريكور فيتبنى ” التعريف العلمي الآتي للهرمينيوطيقا، إذ إنها نظرية عمليات الفهم under_standing في علاقتها بتأويل interpretationالنصوص. ولهذا فإن الفكرة الأساسية في الهرمينيوطيقا ستكون إدراك الخطاب discourse بوصفه نصا . وهنا ستكون الطريقة سالكة أمام محاولة حل المشكلة الهرمينيوطيقية المركزية وهي التعارض الذي أراه يصل حد الكارثة بين التفسير والفهم . ولذا فإن أي بحث متكامل بين هذين المفهومين اللذين تميل الهرمينيوطيقا الرومانسية إلى تفكيكهما ، سوف يقود ابستيمولوجيا إلى إعادة توجيه الهرمينيوطيقا ، بما يتطلبه مفهوم النص نفسه “[12] . ما بهمنا من تعريف بول ريكور هو إشارته إلى عمليات الفهم ، واستقلاليتها ، من حث كونها لا ترتكز إلى إرادة المؤول ، وحسب ، وإنما يدخل في صميم ذلك الكثير من العوامل والمحفزات والقدرات والكفاءات ، بخاصة وأن التأويل لم يعد ذلك المفهوم الساذج المتعلق بالمعنى الحرفي والمعنى الرمزي . لقد جرف المفهوم الجديد للهرمينيوطيقا الكثير من التصورات الراسخة بعيدا ليؤسس استنباطات مغايرة ناتجة عن نقد المعايير السابقة . وقد كان شليرماخر من المبادرين إلى توسيع دائرة الهرمينيوطيقا ” ولهذا حمل برنامج شليرماخر الهرمينيوطيقي علامة مزدوجة : علامة رومانسية من خلال سعيه إلى العلاقة الحسية مع عملية الإبداع ، وعلامة نقدية من خلال رغبته بتوسيع قواعد الفهم الصالحة شموليا “[13] وهو ما يترجم عن وعي ، التحول من سطحية التفسير وحرفيته ، إلى شمولية التأويل ولا يقينيته ، من حيث كون التفسير مسألة يقينية ، والتأويل مسألة ظنية ، وعليه يميز شليرماخر بين منهجين في الممارسة التأويلية :
1 ـ منهج قواعد اللغة ، الذي يعالج النص أو أي تعبير كان انطلاقا من لغته الخاصة [لغة إقليمية ، تركيب نحوي ، شكل أدبي] ، وتحديد دلالة الكلمات انطلاقا من الجمل التي تركبها ودلالة هذه الجمل ، على ضوء الأثر في كليته : التأويل اللغوي إذن إيجاد المعنى الدقيق لخطاب معين انطلاقا وبمساعدة اللغة.
2 ـ منهج التأويل النفسي ، والذي يعتمد على بيوغرافيا المؤلف ، حياته الفكرية والعامة والدوافع ، والحوافز التي دفعته للتعبير والكتابة ، فهو يموقع الأثر أي النص في سياق حياة المؤلف ، وفي السياق التاريخي الذي ينتمي إليه”[14].
وإذا كان نشاط شليرماخر قد اعتبر مبادرة مبكرة في تأسيس نظرية للفهم ، فإن المشكلة التي صارعها كما يقول بول ريكور ” هي العلاقة بين شكلين من التأويل : التأويل [النحوي ] والتأويل [التقني]. يعتمد التأويل النحوي على سمات الخطاب التي تشع في ثقافة ما ، أما التأويل التقني فيهتم بفردانية رسالة الكاتب بل عبقريته”[15] وسواء استعملنا مصطلح منهجين أو شكلين من التأويل ، فإن الأمر يتعلق بانقسام الرؤية التأويلية لدى شليرماخر باتجاهين ينتمي أحدهما للبنية الدلالية والنحوية ، ويتعلق الآخر بالبنية النفسية للكاتب ومحيطه الاجتماعي . وحسب بول ريكور ، فإن حل هذه المسألة المستعصية يمكن رده إلى التصور التالي: ” إن الطريقة الوحيدة التي يمكن بها أن نتخطى هذه العقبة هي توضيح علاقة العمل بذاتية المؤلف وتغيير التركيز التأويلي على البحث المكثف على الذوات الخفية إلى التركيز على مغزى sense العمل نفسه ومرجعه reference [16].
ومن بين دلالات التأويل أن اللفظ ” مأخوذ من ” أول ” وهو الرجوع ويقال آل إليه أولا ، أي رجع ويقال أول الكلام تأويلا إذ تدبره وقدره برده إلى أصله أي دلالته الحقيقية ، كما أن التأويل هو تعبير الرؤيا . لذلك أخذ التأويل في اصطلاح المفسرين معنى التفسير تارة وهو بيان المعنى في اللفظ وهو المعنى الذي استعمله الطبري . كما أخذ معنى صرف اللفظ عن معناه الظاهري إلى معناه الباطن ، باعتبار المعنى الأخير هو المقصود منه . أما عند الفقهاء الأصوليين فالتأويل يرادف “التفسير” لأن للفظ المجمل إذا لحقه البيان بدليل ظني سمي مؤولا ، وإذا لحقه البيان بدليل قطعي سمي مفسرا”[17]. والمتأمل في قضايا الدراسات الفقهية ، يجد أن التأويل إنما ظهر في مواجهة التفسير اللفظي ، غير أن معظم المفسرين نظروا إلى التفسير بوصفه معادلا إجرائيا للتأويل ، ومن ثم ” اجتمعت مباحث تفسر القرآن على أن التفسير والتأويل واحد بحسب عرف الاستعمال من منظور أن التأويل كلمة ظهرت إلى جانب التفسير في بحوث القرآن عند جمع المفسرين واعتبروها متفقة بصورة جوهرية مع كلمة التفسير في المعنى ، وكأن الكلمتين معا تدلان على بيان معنى اللفظ والكشف عنه . قال صاحب القاموس: أول الكلام تأويلا، دبره وقدره وفسره ، على الرغم من اختلاف العلماء في تحديد مدى التطابق الكلي بين الكلمتين ، فإنهم يكادون يجمعون على أنهما يردان من قبيل إظهار المعنى الخفي الوارد في ظاهر الكلام”[18]. وعلى ما يبدو فإن آراء الشراح والمفسرين تتضمن الدلالة الكلاسيكية لمفهوم الهرمينيوطيقا القائم على المعنى الحرفي.
أما تجليات التأويل ، ومقاصده عند الفلاسفة وعلماء البلاغة والمتصوفة والمعتزلة ، فقد ذهبوا مذاهب شتى في تأويل القرآن لا يمكن حصرها ، حتى اتسعت دلالاته وتشعبت معانيه بحسب السياقات ، والقرائن ، والحجج والبراهين ، وغيرها من الأدوات العقلية ، والبرهانية، والذوقية.
أما إذا أخذنا معنى التأويل لغة ” فهو إظهار المقصود عن طريق الظن ، والتأويل أيضا استجلاء الغموض في نص أوفي خطاب معين أو تحويل معناه من لغة لأخرى أو إضفاء معنى محدد عليه قصد إدراكه”[19]ويتضمن هذا التعريف تعددا في الدلالة النصية أو الخطابية يضفيها المؤول على النص مما يفسح المجال للتعدد والظن.أما ” التفسير لغة هو جملة الأساليب الرامية إلى جعل ظاهرة ما أو مجموعة من الظواهر أو نص ما مفهوما ،. وذلك اعتمادا على التصورات والمعارف المتوفرة . والتفسير في البحث العلمي هو الكشف عن القانون المفسر لظاهرة ما ، أو المفسر للعلاقة التي تربط بين الظواهر ، والتفسير ، بمعنى الفهم ، هو إبراز الظاهرة بأنها نتاج لمبادئ معلومة لإحكام ضرورية ، وهي الأسباب والعلل المحددة لها . ومن ثم فإن ، الظاهرة المراد تفسيرها ليست ميتافيزيقية ، وترتيبا على ذلك ، فإن التفسير فهم يقيني وموضوعي وتعليلي فهو خطاب إشكالي [20]
وإذا كان التحليل العلمي يفصل بين دلالتي التفسير والتأويل على اعتبار أن الكشف عن الحقائق ظني ، في التأويل بينما يعد قطعيا في التفسير ، فإن الأمر خلاف ذلك في مباحث القرآن لتطابق الدلالتين بحسب ما ورد لدى بعضهم في قوله ” وفي هذا نجد كلمة التفسيرـ في موارد استعمالاتها ـ تؤدي الغرض نفسه ، الذي تؤديه كلمة التأويل ، وذلك لاشتراكهما في تبيان حال ما خفي من باطن النص ، وبوصفهما ـ أيضا ـ يتضمنان مقولة الاستدلال والاستنباط ، بغرض الوصول إلى التعيين الذي يحصل بالبراهين العقلية والقطعية ، نظرا لتماثلهما في البحث ، وتوحدهما في الماهية”[21]. بينما شاع في استعمال الفلاسفة المسلمين، وبخاصة عند ابن رشد مصطلح التأويل وصارت له قوانين وتشدد في استعمالها.
والحاصل أن التأويل قد نشأ في ظل الدراسات الفقهية ، والفلسفية باستراتيجيات مختلفة ، ومتباعدة ، غير أن القاعدة الفكرية التي ينطلق منها ترجح العقل والاستدلال بغرض توسيع مجالات التفكير.
لقد ازداد الوعي بأفق الهرمينيوطيقا بوصفه الأكثر اتساعا ومرونة ، وأصبح الحقل الذي تتقاطع فيه الفلسفة مع التاريخ والفن أو ما يسميه الفلاسفة الألمان بـ” علوم الروح”. كما تبين أن الهرمينيوطيقا بوصفها فن التأويل قد خلصت النصوص الأدبية من التراكمات السحيقة للسيكولوجيات الساذجة وحلقت بها في فضاءات من الافتراضات والتساؤلات ليتحول النص إلى ظاهرة أو علامة يحتاج إلى قراءة وتفسير وتأويل ، ويشترك في هذه المسألة أو مايسمى بـ ” عمليات الفهم” مجموعة من القواعد والاستعدادات والكفاءات التي تتجاوز الخبرات اللغوية إلى مهارات غير لغوية تتضافر معها عوامل إنسانية ، وتشترك في حوار مع النص.
وإذا كانت الهرمينيوطيقا بوصفها ” فن القراءة” أو ” فن الفهم ” تسعى لمحاولة فهم روح النص وليس مجرد إسقاطات تحوم حول النص ، فما هي إذن استراتيجياتها ظ وما مدى تطبيقاتها في النصوص الأدبية؟
3 ـ استرتيجيات التأويل :
لعل قراءة الكون ، وتفسير الوجود هي بالأساس مسألة تأويل. قال تعالى: ” قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ” [22] فهذه المجهولية والاستسرارية ستدعي تحفيز الذات على الفضول المعرفي من حيث كون تطلع الذات إلى المعرفة والكشف هو تطلع غريزي . واعتبارا من هذا التطلع أصبحت الهرمينيوطيقا نشاطا استقصائيا توجب النظر إلى النص الأدبي في مختلف جوانبه انطلاقا من نظرية تعددية المعنى، وجماليات التلقي ، حيث شكل الانتقال من سلطة النص إلى سلطة القراءة منعرجا حاسما في تاريخ النقد الأدبي . فما هي استراتيجيات التأويل في ضوء هذا التحول؟ وما أهمية إجراءاتها التطبيقية في تحليل النص الأدبي؟
أ ـ التأويل ونظرية التلقي :
ألزمت شعرية الأثر المفتوح المؤول ، على مقاربة النص في ضوء تفاعلية نصية بين القارئ والنص إذ ” إننا في القراءة نصب ذاتا على الأثر، وأن الأثر يصب علينا ذواتا كثيرة ، فيرتد إلينا كل شيء فيما يشبه الحدس والفهم”[23]. ولكن هذه التفاعلية تفترض كفاءة تقبلية ، وخبرات قرائية تسمح للقارئ بأن يتجاوز تقلبات النص وانزياخاته ، ويكون قادرا في الآن ذاته على احتواء اتساع إشاراته، وأبعاده الكنائية وليس من الضروري أن يكون هذا القارئ مزودا بكم من المصطلحات والإجراءات التحليلية ، بقدر ما يستوجب أن يتوفر فيه من الرؤية التأويلية ، والقدرة على اختراق الأثر بالحدس والتخييل ” فالإدراك وليس الخلق ، الاستقبال وليس الإنتاج تصبح عناصر منشئة للخطاب”[24] . فتاريخ الأدب إذن هو تاريخ تلقيه ، مما يستلزم تدرجا في انتقال الخبرة الجمالية عبر التاريخ ” وهنا ، فإن الأفق الأدبي ينشأ لأن العمل ذاته يجعله هدفا مدركا من قبل القارئ”[25] .
إن الجدل القائم بين التفسير والفهم يمكن أن يجد لنفسه مجالا خصبا في ضوء نظرية التلقي التي نشأت في ظل التلاحم بين التاريخ والجمالية ، واستطاعت تحديد معنى الحرية المطلقة لمفهوم الكتابة.
إذا كان من الضروري أن نؤول ، فمن المهم أن نواجه السؤال التالي ” كيف نؤول الفعل الأدبي ؟ وماذا ينتج عن تأويله؟يعد التأويل مشكلة في حد ذاته ، إنه يستدعي امتحان إمكانيته ومدى ملاءمتها ، ويتعلق الأمر بإثارة أسئلة ابستيمولوجية تقارب كل تحليل أدبي ، وكل مجال معرفي ، وتتخذ أحيانا شكل النقد الذي يحلل ، يصف ، ويحاكم النص . فما هو الفعل الأدبي إذن؟ إنه يحتوي الأثر وكذلك ما يدور حوله : [السياق ، الجمهور ]، وما يتقدم الأثر: [المؤلف]، وما يلحقه :[التلقي ، التأثير ، الانتشار][26].
إذا كان مفهوم الأثر يتخذ كل هذه الأبعاد الماقبلية والمابعدية باعتبار ولادته في أثناء الاستقبال، وكذا من حيث كونه متصورا ذهنيا غائبا ينبغي استدعاؤه بتضافر مجموعة من العوامل الخارجية [ السياق ، الجمهور] ، وأخرى داخلية [المؤلف أو الذات المبدعة] ، فلا شك أن مقاربته لا تتخذ نفس المستوى الابستيمولوجي ، والقدرة الوصفية والتقييمية للأثر ، لا من حيث اختلاف القدرات والكفاءات النقدية والتأويلية وحسب ، ولكن أيضا من حيث اختلاف وتباين البنى النصية . وعليه فإن مفهوم المعنى والتأويل يعد مسألة في غاية التعقيد لا يمكن حلها في إطار ما يعرف بجدل الذاتية الموضوعية من حيث كون ” كل تأويل للرمز يظل بحد ذاته رمزا ، ولكنه معقلن قليلا ،أي مقرب من المفهوم قليلا ، وتعريف المعنى بكل ما لجوهره من عمق وتعقيد إنما ينطوي على إضافة عن طريق الخلق الإبداعي “[27] وبالعودة إلى الخلق الإبداعي ، نستطيع حصر التأويل في إطار الخبرة الجمالية والتاريخ كما رسختها جمالية التلقي ، وجعلت النص أو الأثر مدركا جماليا أو متصورا ذهنيا غائبا يعمل التأويل على استدعائه وفق طاقات تخييلية ، وقدرات تأملية معينة.
وفي سياق مشابه يتساءل باختين ” إلى أي حد في مقدورنا أن نكشف ونعقب على معنى [الصورة أو الرمز] ؟ ليس ذلك ممكنا إلا بوساطة معنى آخر [للرمز أو للصورة] ،مساو في الشكل والتبلور . إذ إن إذابته في مفاهيم أمر مستحيل. ما يمكن هو إما عقلنة المعنى نسبيا [تحليله تحليلا علميا عاديا] أو تعميقه بوساطة معان أخرى [تأويله تأويلا فلسفيا فنيا]أي تعميقه عبر توسيع سياق بعيد . إن تفسير البنى الرمزية مرغم على الخوض في لا نهائية المعاني الرمزية ، ولذلك فهو لا يستطيع أن يصبح علميا بمعنى علمية العلوم الدقيقة”[28].
لا شك في أن قراءة الإبداع الأدبي تتطلب مهارة تخييلية تطابق أو تتجاوز مهارة المؤلف نفسه ، فمواجهة البنى الرمزية في تعددها ولا نهائيتها يحتاج إلى رؤيا تأويلية تكرس جملة من العوامل والمعايير ، وتتوسط القراءة والعلم ، والتفسير والفهم ، والذوقي والعقلي ، وغيرها من أساليب التحليل سواء عن طريق المكاشفة والظن ، أو عن طريق عقلنة المعنى نسبيا ، أو غيرها من أساليب المحاورة ، وتشابك الفضاءات ، وتداخل العوالم .وقد تحملت جمالية التلقي في علاقتها بالهرمينيوطيقا جزءا كبيرا من هذه الممارسة النظرية التي تحمل القارئ مسؤولية إعادة بناء الأثر في أثناء الاستقبال وعبر كافة مراحل التاريخ لاختبار الذوق ونقد الخبرة الجمالية.
ب ـ التأويل النهائي/التأويل اللانهائي
انصب اهتمام النقاد في السنوات الأخيرة على توطيد العلاقة بين الفلسفة والنقد بغرض توسيع أفق التفكير النقدي ، وتأسيس وعي جديد ينبني على التساؤل ويتبنى أساليب الشك والحوار ، ولا يحتكم إلى يقين ثابت وإنما يسلك طرائق الممكن والمحتمل. وهو ما تعكسه نتائج المناهج المعاصرة ، وأهمها المنهج التأويلي الذي انتزع مصداقيته بفضل ما يوفره من آليات وإجراءات من جهة ، وبسبب انفتاحه على حقول معرفية متنوعة من جهة أخرى.
ولقد أضحى التأويل هاجسا نقديا ذا نزعة عالمية سواء من حيث روافده التأملية والفلسفية ، أم من حيث اتساع وتنوع استعمالاته التي تتعدى حدود النص الأدبي إلى مجالات فكرية وجمالية مختلفة . كذلك يتميز التأويل بمسألتين جوهريتين ، فهو من ناحية يقوم على قواعد منطقية صارمة ، ويستند ، من جهة أخرى إلى إشراقات صوفية [الغنوصية ، الهرمسية] . وخلاصة ذلك هي أننا بإزاء ” تصورين مختلفين للتأويل . فتأويل نص ما ، حسب التصور الأول ، يعني الكشف عن الدلالة التي أرادها المؤلف ، أو على الأقل ، الكشف عن طابعها الموضوعي ، وهو ما يعني إجلاء جوهرها المستقل عن فعل التأويل . أما التصور الثاني ، فيرى على العكس من ذلك ، أن النصوص تحتمل كل تأويل”[29] . وخلاصة الاختلاف بشأن هذين التصورين مرده اختلاف المرجعيات المعرفية ، والمصادر الفكرية التي ينهل منهما كل تصور، ويعتقد في جديتها ، وأصالتها. ففي حين يتجرد التأويل اللانهائي من كل قصدية ، يستمر التأويل النهائي في التطابق مع النص ” فعندما يفصل النص عن قصدية الذات التي أنتجته ، فلن يكون من واجب القراء ولا في مقدورهم التقيد بمقتضيات هذه القصدية الغائبة ، والخلاصة ، وفق هذا التصور ، أن اللغة تندرج ضمن لعبة متنوعة للدوال ، كما أن النص لا يحتوي على أي مدلول متفرد ومطلق ، ولا وجود لأي مدلول متعال، ولا يرتبط الدال بشكل مباشر بمدلول يعمل النص على تأجيله أو إرجائه باستمرار فكل دال يرتبط بدال آخر بحيث لا شيء هناك سوى السلسلة الدالة المحكومة بمبدأ اللامتناهي “[30] وهو ما يعني أن القول بوجود مدلول نهائي فكرة ساذجة لا تستجيب للتنوع الإشاري ، وتعدد العلامة النصية .
ولكن هل يجدي التعامل مع العلامة النصية منفصلة عن مؤلفها ، ومرجعها؟إن أمرا كهذا قد يكون منافيا للمنطق النقدي الذي يعتبر النص سلسلة لسانية تتحكم فيها مرجعيات ، وإرث إنساني ، بخاصة فيما يتعلق بالدلالة الذي يفترض وجود سياقات ، وقصديات .
4 ـ التأويل في النقد العربي المعاصر :
شكلت الهرمينيوطيقا بكل إرهاصاتها تأسيسا نظريا ومنهجيا تجلت مبادئه في النقد العربي المعاصر ، في بعض المحاولات التطبيقية التي جمعت بين السيميائيات والتفكيكية ، وأضافت إليها من معين التراث النقدي ، كما تميزت نظرية التلقي بحضور نافد في ثقافة النقد العربي. وعلى الرغم من طواعية المنهج الهرمينيوطيقي ، ومرونته ، إلا أنه لا يمكن اعتباره منهجا مطلقا ، وإنما هو مجموع من الفرضيات ما يزال يشوبه التعتيم والتعميم الذي لا يمكن أن يتلاشى ” إلا إذا تم الاهتمام بالفرق بين المصطلح في مستويات وجوده الثلاثة ، والتي هي أولا: المستوى المجرد ، الذي يرتبط بكون التأويل فعل إدراك وتمثل للمعنى عن طريق الفهم والتفسير ، وهي ثانيا المستوى الإجرائي الذي يتجسد في سيرورة ذهنية من التفكير الجامع في نفس الآن بين الدليل المدرك [شيئا أو ظاهرة]وبين كل ما هو حاصل في وعى المدرك من معرفة مسبقة حول هذا الدليل ومن تمثيلات مزامنة للحظة الإدراك ذاتها ، ثم هناك ثالثا وأخيرا ، التأويل بوصفه تحققا فرديا ، وهذا المستوى هو الذي يسمح لنا بأن نحكم على الآليات المستخدمة من قبله ، وعلى قدراته ومقاصده”[31].
تبرز أهمية التأويل إذن ، في الطاقة الذهنية ، والقدرة على إدراك العلامة ، واتساع أفق المؤول ، واختلاف مقاصده ، ومحاولة ربط أفق النص بأفق القارئ ، والسياق ، والمرجع . ولعل تفاعل كل هذه العوامل من شأنه أن ينتج رؤية تأويلية مفارقة ، وبإمكان هذه الرؤية أن تواجه بعض المعيقات مثل:
ـ إكراهات المنهج
ـ سقوط التأويل في متاهة التوجه المسبق
ـ الانحراف عن التفاعل مع النص
ولكن ، واعتبارا من كون المعنى يتعدد بتعدد تجارب التلقي ، يمكن مواجهة تلك المعيقات بتحويل ذلك التوجه ، وجعله يفضي إلى فضاء أرحب ينتهي بتحويل العلامة لأن تصبح موضوع فهم جديد.
ثمة مسألة أخرى يمكن أن تتجسد فيها الحلول الممكنة لمشكلة التأويل في النقد العربي المعاصر ، وذلك من خلال ما يعرف [بالقراءة التفاعلية] حيث الدلالة متعددة ، ولا نهائية ، والقراءة حفر في عمق النص و بحث عن الغامض فيه ” ومعناه أنه إذا كان التلقي حدثا تواصليا يعكس نوعا من أنواع التفاعل بيننا وبين الباث فإنه لابد من أن يكون التأويل شكلا محددا للتفاعل بيننا وبين النص ، أي محاولة إقامة بنية للتلقي أو جهاز للقراءة في مقابل بنية الرسالة أو جهازها الإبداعي والفني الراجع إلى نظامها الذاتي . أي أننا بصدد مستويين اثنين للتفاعل هما :
أ ـ تفاعل المتلقي بالباث : تواصل
ب ـ تفاعل المتلقي بالنص : تأويل[32].
يطور التأويل إذن حقيقة ، تستنبط من التفاعل النصي ، وتتحقق بتجاوز مطابقة مقاصد المؤلف . كما يصبح من شأن عمليات الفهم إعداد مجموعة من الفرضيات تتلاءم مع السياقات المناسبة لمكونات كل نص .
5 ـ الشعرية و التأويل
تأسست الشعرية بوصفها نظرية للغة الأدبية وذلك بدءا من الثورة الألسنية التي أعادت الظاهرة الأدبية إلى جوهر إنبثاقها الأول (اللغة) ، غير مكترثة بالتداعيات السوسيولوجية والسيكولوجية باعتبارها تفسيرات ضيقة لا تتعدى فكرة اللغة المزدوجة : المعنى الظاهري ، والمعنى الخفي الذي يتم العثور عليه بالتأويل الرمزي . وتماشيا مع الثورة الألسنية ،أعيد الاعتبار إلى الظاهرة الأدبية في ضوء المناهج النسقية أو المحايثة حيث لا يمكن لأية قراءة نقدية أن تنطلق من مسلمات مسبقة ، بل هي تراهن على عنصر التفاعل بين النص والقارئ التي يبدو من خلالها النص ولادة متجددة ، وأنسجة متشابكة ، وسلسلة لانهائية من الدلالات تتسع باتساع أفقها الإشاري، ” فالعمل الفني هو من جهة ، موضوع يمكن أن نجد له شكله الأصيل كما تصوره المؤلف وذلك من خلال مظهر الآثار التي يحدثها على عقل المستهلك وإحساسه . وهكذا ينشىء المؤلف شكلا مكتملا بهدف تذوقه وفهمه مثلما أراده هو لكن ، ومن جهة أخرى ، فإن كل مستهلك ، وهو يتفاعل مع مجموع المثيرات ، وهو يحاول أن يرى وأن يفهم علاقاتها ، يمارس إحساسا شخصيا ، وثقافة معينة، وأذواقا واتجاهات ، وأحكاما قبلية توجه متعته في إطار منظور خاص به . وفي العمق ، فإن الشكل يكون مقبولا جماليا ، وبالضبط عندما يكون ممكنا تصوره وفهمه وفق منظورات متعددة ، وعندما يحمل تنوعا كبيرا في المظاهر والأصدية دون أن يتوقف عن أن يكون هو نفسه “[33] . ولعل انفتاح النص الأدبي على التأويل يعد من أهم انجازات الشعرية كونه يؤول بطرق مختلفة ” والحال أن الانفتاح لا يعني هنا غموض الخطاب وتعدد إمكانيات الشكل وحرية التأويل ، فالقارئ يمتلك فقط جدولا من الإمكانيات المحددة بدقة والمشروطة بحيث إن الفعل التأويلي لا يفلت من مراقبة المؤلف”[34] . إن انفتاح الشعرية على التأويل بهذا المنطق يعد بمثابة انجاز رؤيات مختلفة للعالم ، وهو الانجاز المبكر لشعرية الأثر المفتوح التي آثرت التفاعل مع القارئ والمشاركة العاطفية والتخييلية للمؤول على افتراض أن الفعل الأدبي يتضمن انتهاكات وانزياحات لا نهائية.
فما هي الشعرية ؟ وما اتجاهاتها ومدارسها ؟ وما هي النظرية التي ترتكز عليها ؟ والمسلمات التي تنطلق منها ؟ والنتائج التي تصبو إليها؟ وما موقع الشعرية العربية ؟ ودور التراث في إبداع أنماط شعرية مغايرة ومختلفة؟
انطلقت الشعريـة من التصـور الفلسفي لمفـهوم الجمـال الذي يعّرفـه أفلاطون بأنـه ” الشيء الذي تكون به الأشياء الجميلة ، جميلة ” وبذلك شاع مفهوم الشعرية بأنها ” ما يجعل من نص ما نصا شعريا”[35] غير أنها اصطدمت بمفهوم القاعدة أو المعيار فشرع أصحاب النظرية يبحثون” عن معيار صحيح قادر أن يميز النصوص الشعرية من النصوص غير الشعرية”[36] ويثمن المرتكزات النظرية التي تقوم عليها ، ” وإذن فإنـه ينبغي هنا اللجوء سواء إلى حدسية التحليل أو إلى إجماع الذوق العام” [37] وبما أنه ليس هناك علم يقوم على حدس فقد انقسم المنظرون إلى اتجاهات مختلفة ، ومتباينة في تحديد القاعدة والمعيار” فإذا كان الفرق في العصور الكلاسيكية واضحا بين الشعر واللاشعر فإنه اليوم يجنح إلى التلاشي”[38] بينما يظل الملمح الأساسي الذي تلتقي فيه الشعريات يتمثل في مقابلة الشعر للاشعر (النثر) ، وقد نجم عن هذا التقابل أنماطا من الشعريات:
¥ شعرية تراهن على نظريات تبحث عن الشعرية داخل المحتوى، وهذه النظريات لا ترى عموما في المعنى الشعري خاصية سيمانتيكية أو معنى نوعيا مختلفا لكنها ترى فيه فقط زيادة في المعنى ، وهي في الغالب الشعريات الدلالية والأسلوبية
¥ شعرية تجعل من النص الشعري لونا من اللعب بالكلمات ، وتحوله إلى موضوع لغوي جميل وهي الشعريات البنيوية والشكلانية
¥ أما الشعرية المتصلة بنظرية تعدد المعاني ـ وهي نظرية ذائعة الآن ـ فإنها لا تعترف بطبقات المعنى ، وإن كانت تؤمن بتعدده ، وينتمي هذا النمط من الشعرية إلى الشعريات التقبلية التي تعتمد على التأويل ، وجمالية التلقي ، والتفكيك ، ونظرية القراءة .
إن انزياح اللغة نحو المجاز الذي يصّنعه الشكل الفني في الاستعارة ، يمنحها القدرة على الدخول في عالم المكاشفة، وهكذا تتجلى الاستعارة في ثوبها الانزياحي بموجب أوجهها المتعددة ، من هنا يمكننا القول بأن عملية التحول هذه تحيل على خطاب يصبح فيه المخاطب منفلتا من المرجعية النموذجية التي طالما منحت النص قاعدة تأسيسية يصعب اختراقها ، ارتكزت على قانون التطابق/التماثل.
إن توظيف الاستعارة كان وما يزال يكشف قدرة الانعكاسات بدءا من نزوعها العفوي إلى توجهها الفني بغرض إظهار الشيئ بما هو جسد للفكرة في تصويره الفني البليغ من خلال تحويل العالم الواقعي إلى عالم متخيل ، أي من واقعية الشكل إلى افتراضية التصوير ، وهي إشارة تنبني على كسر الإطار النموذجي ، والشروع في ملامح المكاشفة الايمائية.
إن مثل هذا المنظور للاستعارة يركز الاهتمام بحدة بالغة على المجاز في تطابقه مع العدول من حيث نقل المعنى مما وضع له في أصل اللغة إلى مسماه الافتراضي.
في خضم ذلك هل يمكن للغة الشعرية أن تتحدد في النص بمستوى معين ، وبشكل نهائي وتام؟ أم أن هناك علاقات غير قابلة لأي تحديد ؟ وإذا كنا نعتقد مسبقا أننا لا نسلك الطريق نفسه ( للبحث عن معنى الأشياء ) فهل في وسع اللغة بمظهرها الطبيعي ما يجعلها ممكنة بمقدار تشعب العلامة الشعرية (للبحث في معنى الأشياء).
إن ما يقع على عاتق اللغة الشعرية ليس إعتاق العلامة الشعرية وحسب ، وإنما استعادتها في حركية من عزلة الدال بمستوى حرية المدلول ، ونتيجة لذلك يبدو الانزياح “مسافة اختراق” بوصفه الشكل الذي يكف عن أن يكون نموذجا لشكل آخر ، وعوضا عن ذلك اهتمت الشعرية بكسر النماذج ودحضها ، والبحث في ما يفلت من الأنساق .
ولقد حاولت الشعرية تتبع أثر ذلك الانزياح انطلاقا من خوض تجرية تأملية اقتضت النظر في اللغة الشعرية على أنها نمط تعبيري منحرف عن القاعدة ، يستمد درجة حضوره من درجة انحرافه ، فكانت الحاجة إلى معيار يثمن مستويات الانزياحات ، وأشكالها ، وذلك بالقياس إلى مدى خروجها عن الاستعمال المألوف للغة ، ، وبقدر ما تحدثه من أثر في وجدان القارئ ، غير أن ذلك كله لم يفسح المجال إلا لمزيد من الالتباسات فيما يخص ظاهرة الانزياح التي سيقت إلى حتفها المؤجل ، ولم ينتج ذلك عن فشل في الرؤية ، أو قصور في الإجراء ، أو ضعف في التأمل ، وإنما يعود إلى التالي :
ـ أولا شساعة موضوعها “الأدبية” التي تدخل في نظرية أشمل من اللغة ، وهي نظرية الاتصال ، مقابل تقوقع الشعرية في حيز من الفروقات الثنائية : شعر/نثر، حقيقة/مجاز، قاعدة/انحراف .
ـ ثانيا تصميمها على الشعر بوصفه وظيفة لغوية تنجم عن استعمالات مغايرة أو مضادة للنثر
ـ ثالثا فصل اللغة عن كيانها (الشعر) واعتباره جزءا منها ، بالتركيز على لعبة المجازات وفهم الشعر على أنه مجرد خروج أو ابتعاد عن اللغة الأصل.7[39]
وهكذا فإن البحث الذي نقترحه ، لا يرحب بأية قناعة تؤكد سبلا منهجية ثابتة المعالم على اعتبار أن اكتمال نظرية في الشعرية ، أمر لم يتسن انجازه بعد ، ومن ثمة فهو يلح على مزيد من التساؤلات لم ترض أبدا الانتهاء إلى صياغة اجابة نهائية ، وإنما تتطلع بموجب توجهها الحداثي إلى اقتراح مسلمات سنأتي عليها لاحقا.
إن الشعرية هي بحث في ما يكون به الأدب “أدبيا” أي في تلك الخصائص الممكنة لكل إبداع متميز وخلاق ، والانزياح هو ممكن اللغة في لحظة المكاشفة الشعرية ، وبذلك ، فإن هذا الممكن ، يمتلك أكثر من طريقة للابتكار والخلق.
إن اختلاف الاتجاهات الشعرية يعد في صلب إغنائها واثراء التجارب النقدية ، كما أنه يكشف عن انفتاح الادراك الجمالي لدى القارئ من جهة ، وعن الكثافة الايحائية ، والعمق الإشاري ، والدلالي للنصوص من جهة أخرى . ولا نعتقد أن تاريخ النقد العربي يخلو من مثل هذه الطروحات ، بخاصة تلك التي سجلتها السجالات النقدية كالموازنة التي تعد بحق منهجا نقديا ،. وكان يمكن أن تتحول إلى فاتحة لنظرية نقدية عربية لو أنها حظيت برؤية اختلافية غير مطابقة مما جعل النقد العربي يظل حبيس النقاط التالية :
ـ الانخراط في الحكم على القيمة الجمالية للنصوص
ـ عدم التخلي عن التصورات الثابتة للمفاهيم
ـ صياغة معايير راسخة مع وجوب اتباعها في ضوء ثبوتية هذه القيم
ولتجديد المناهج النقدية في أفق الشعرية ينبغي حل هذه السلطات واستعادة مقولات من مثل :
= جدلية العمل الأدبي ومؤوله
= كسر مركزية المفاهيم الجمالية القديمة
=استعادة مسار التلقي في الثقافة النقدية العربية ، وتبديد ألفة التلقي
= خرق مقولات التمركز ، الائتلاف ، التطابق
= تفكيك الثنائيات المعيقة لحركية العقل العربي
= إطلاق العنان ، واستفاضـة التأمل ، بإشراك بدائـل مثل ( التأويل ، التفكيك ، الاختلاف ،،،)
[1] مصطفى ناصف : نظرية التأويل ، النادي الأدبي بجدة ط1/2000 ص104
[2] المرجع نفسه ، ص 104
[3] نفسه
[4] هانس غيورغ غادامير : فلسفة التأويل ، تر : محمد شوقي زين ، منشورات الاختلاف ، ط2/2006 ن ص 20
[5] المرجع نفسه ، ص 20
[6] المرجع السابق ، ص26
[7] مصطفى ناصف : نظرية التأويل ، ص 105
[8] هانس غادامير : فلسفة التأويل ، ص 27
[9] المرجع نفسه ، ص 26
[10] Serge dobrovosky: pour quoi la nouvelle critique ed mercure de France ,1966 p xx
[11] ابن منظور : لسان العرب ، مصدر أول الجزء 11 دار صادر بيروت ص32
[12] بول ريكور : مهمة الهرمينيوطيقا ، تر : خالدة حامد ، مجلة نوافذ ، النادي الأدبي بجدة ، ع22 ، ص 38
[13] المرجع نفسه ، ص 45
[14] محمد مفتاح : مجهول البيان ، دار توبقال ، المغرب ،1990 ، ص90 ـ91
[15] بول ريكور : مهمة الهرمينيوطيقا ، ص46 ـ47
[16] نفسه ، ص 49
[17] حفناوي بعلي : إشكالية التأويل ومرجعياته في الخطاب العربي المعاصر ، الموقف الأدبي ع440/2007 ، ص 13
[18] عبد القادر فيدوح : نظرية التأويل في الفلسفة العربية الإسلامية ، الأوائل ، دمشق ط1/2005 ص 24
[19] محمد الأسعد : أهداف المعرفة العلمية في الجغرافيا : تأويل أم تفسير ، مجلة بصمات ، جامعة الحسن الثاني ، كلية الآداب ، بنمسيك ، المغرب ، ع1/2006 ص 23
[20] المرجع نفسه ، ص23
[21] عبد القادر فيدوح : نظرية التأويل في الفلسفة العربية الإسلامية ، ص 24
[22] سورة الكهف ، آية 78
[23] حسين الواد من قراءة النشأة إلى قراءة التقبل ، ، فصول ، ع 1/م5/1984 ، ص 115
[24] روبرت سي هول: نظرية الاستقبال ، مقدمة نقدية ، تر : رعد عبد الجليل جواد ، دمشق ط/1992 ص 31
[25] المرجع نفسه ، ص 77
[26] Houda chraibi : sense et interpretation dans la methode de lhistoire litteraire مجلة بصمات ع/1/ص73
[27] مخائيل باختين : بصدد منهج علم للأدب ، مجلة الآداب العالمية ، اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، ع133/2008 ص 19
[28] المرجع السابق ، ص20
[29] امبرتو إيكو : التأويل بين السيميائيات والتفكيكية ، تر سعيد بنكراد ، المركز الثقافي العربي ط1/2000 ص 117
[30] المرجع السابق ص 125
[31] عبد اللطيف محفوظ : التأويل في النقد العربي المعاصر ، مجلة بصمات ، ع1/ص 119
[32] ادريس بلمليح : القراءة التفاعلية ، دراسات لنصوص شعرية حديثة ، دار توبقال ط1/2000 ، ص 98
[33] أبرتو إيكو : شعرية الأثر المفتوح ، تر : عبد الرحمن بوعلي ، مجلة نوافذ ، النادي الأدبي ـ جدة ، ع6/1998 ، ص 83
[34] المرجع نفسه ص،87
[35] جون كوهن : اللغة العليا ، تر : أحمد درويش ، المجلس الأعلى للثقافة ط2/2000 ، ص10
[36] المرجع نفسه ، ص10
[37] نفسه ،
[38] نفسه ، ص 11
[39] ينظر : كتابنا : شعرية الانزياح ، مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية والنشر ، إربد الأردن ، 2000
أغسطس 3 2012
الغنائيّة في الشعر العربي: محاولة نمذجة -عبداللّطيف الوراري
الغنائيّة في الشعر العربي: محاولة نمذجة عبداللّطيف الوراري [شاعر وناقد من المغرب]
1. تقديم:
إنّ بحث الغنائيْة هو مغامرةٌ بحدّ ذاتها، لأنّ مثل هذا البحث يستلزم العبورَ في مسارٍ طويلٍ ومتشعّبٍ يقودنا، رأساً، إلى غمار التجربة الجاهلية الّتي يتوقّف عليها فهْمُ خصوصيّات الشعر العربي، والقضايا النوعيّة التي ارتبطت به، إنتاجاً وتلقّياً.
واليوم، نفهم لماذا نُعِت الشعر العربي بأنّه “شعر غنائيّ”، ولاسيّما من المستشرقين المتأثّرين بالإرث الأرسطي )=نسبة إلى أرسطو طاليس(، أو بالأحرى بالثلاثيّة اليونانية المنسوبة إلى أرسطو)ملحمي، تراجيدي، غنائي(. وإذا كان ذلك اكْتِشافاً في سياق اهتمامهم ب “الآخر الشعري”، إلّا أنّه سرعان ما أصبح حجاباً يُغطّي أكثر ممّا يكشف، بعدما صار يُقْصد ب”الغنائي” ـ الّذي لم يرِدْ ذكره في كتب القدماء من نقّاد وبلاغيّين ـ البعد العاطفي أو الوجداني الصرف، حتّى غدت كلّ قصيدة رومانسيّة أو وجدانية غارقة في “السنتيمنتاليّة” أو عاطفية تحاكي الموسيقي وتسعي إلى الطرب والتطريب قصيدةً غنائيّةً، وليس بتلك الّتي يمكن أن تتجاوز ذلك إلى أوضاع شعريّة تتأرجح بين “المطلق” و”الملحمي” كما تُرشدنا إلى ذلك قصائد من الشعر القديم والحديث على السواء. وقد أشاع مثل هذا الفهم الخاطئ والمضلِّل، فيما بعد، الجهلة بعلم الشعر، وكتبة قصيدة النثر العربية المجاهرون بعدائهم الشديد للغنائية، الذين يرون فيها عودة إلى الوراء وكُفراً بالتقدم الذي حقّقته الحداثة، لأنّها ـ في نظرهم ـ )مفرطة في الموسيقيّة) و(ذاتية) و(حماسية) أو(جياشة المشاعر)!
من هنا، ورفْعاً لكثير اللّبس وليس اللّبْس كلّه، نُعيد إدماج موضوع الغنائيّة في إشكاليْة جديدة تضيء الوضعيّة الإبستيمولوجيّة لها من حيث مفهومها ومحدّداتها، سعياً وراء نمذجتها أو، بالأحرى، محاولة نمذجتها.
2. إستشكال الغنائيّة:
نُقارِب الغنائيّة كخطاب شعريّ تتحدّد بنياتُه وفق المبدإ الأنواعي الّذي ينتظمها، مُحترسين من أن نُماثل الغنائية بالشعر أو بالقصيدة تحديداً، بعدما كان يلوح دائماً أنّ القصيدة الغنائية تختصر الشعر بأسره، أو هي تسميته الأخرى، بسببٍ من عراقته في الإمبراطوريّات الشعرية الباذخة، ومن هيمنته في جميع الثقافات الشفوية والمكتوبة، ثمّ من عودته المظفّرة داخل التأويل الرومانسي بعد أن صار “هو الشعر الأكثر سموّاً وتميُّزاً عن غيره” في تعريف سْتِوارْتْ ميلْ 1. وما زلنا نرى ـ منذ ما يزيد عن قرن ـ أنّ هذا الشعر ” الأكثر سموّاً وتميُّزاً” هو، تحديداً، نمط الشعر الذي ألغاه أرسطو من كتابه “فنّ الشعر”. بالنتيجة، كان سؤال الإشكالية: ما هي القصيدة الغنائية؟ يحلّ محلّ السؤال: ما هو الشعر؟
إنّ مفهوم الغنائية في الشّعر، شأنه شأن المفاهيم الأكثر شيوعاً واستخداماً، يكتنفه اللّبس والغموض، وقد وجدنا كم كانت “تتضارب الآراء في تلقّي الشعر الغنائي من حيث خصيصته النوعية ووضعه تجاه باقي أنواع القول الشعري والبليغ عامة”2، فمنهما ما أعرض عن محاولات تعريفها أو تحديد طبيعتها العامة، لأنّ ذلك لن يجلب إلّا تعميمات تزيد الإشكالية تعقيداً، ومنها ما كان يسعى إلى تعريفها عبر عرض الخصائص الأخرى التي لا تمتّ إليها بصلة، كما في رأي نورثروب فراي، مثلما لا ننسى فرضيّة سابير ـ هورف المثيرة للنّظر: قد نضطرّ إلى إهمال بعض أبعاد الشعر الغنائي، لأننا ببساطة لا نملك مفردات حريّة بالخوض فيها؛ بل إنّ بعض المعاصرين ينظر إلى الغنائية على أنّها “مصطلح مستنفد”، أو يُصرّح ب” احتراق الغنائية” أو “أفولـ” ها في ظلّ صعود الشعر الدرامي.3
وتزداد وضعيّة الغنائية في السياق العربي تعقيداً ، وذلك لمّا تماهت الغنائيّة بالشعر، وهو ما ألمح إليه جمال الدين بن الشيخ،الّذي خصّ الإنسكلوبيديا العالمية بمقالة لمّاحة حول )الغنائيّة العربية(، بقوله: “إلى حدود القرن العشرين للميلاد، ظلّ الأدب العربي ينْتسِبُ في جوهره للشّعر، ويلتبس تطوُّر الغنائيّة مع تاريخ الشّعر، تلك الّتي تجدها تعبيرها الأكثر تمثيلاً في القصيدة “.4
تفرض مثل هذه الاعتبارات جملةً من الأسئلة في سياق بحث الغنائية، من مثل:
ـ هل يمكن بحث “المسألة الأنواعية” للغنائية في الشعر دون تحديد مفهوم النوع الغنائي؟
ـ هل يمكن القول ب”أنواعيّة العنائية” دون إدراكٍ لغيْرها من أنواع الأدب داخل الثلاثية اليونانية المأثورة عن أرسطو؟ ثمّ داخل القسمة العربية التقليدية: شعر ونثر؟
ـ إلى أيّ حدّ نتقدّم في البحث من غير أن نستدعي خصائص الغنائية ومقوِّمات تكوين نسقها الدّاخلي، من مثل البناء والإيقاع والنظام التلفّظي والنفسي والتيمات، ومن ثَمّ أن نستوعب البنيات النصّية الجامعة للغنائيّة، والمميِّزة لها عن غيرها؟
ـ كيف تتمظهر الغنائية في شعرنا العربي، في ضوء التحوُّلات التي طالت القصيدة وأطرها الفنّية؟
ـ كيف نتلقّى نصوصاً من الشعر العربي الحديث والمعاصر لا تُعلن عن نفسها بسهولة؟
ـ ألا يستوجب وضع المفهوم تعيين نمذجة أنواعيّة قادرة على تمثُّل واستيعاب اختلاف النصوص الشعرية وتعدّدها؟
نثير هذه الأسئلة بغرض الوعي بالوضعيّة الإبستيمولوجية للغنائية، خارج أيّ ادِّعاء بالتبسيط والاستسهال. وإذا ليس بوسعنا، في هذا المكان، أن نخوض في هذه الأسئلة المستشكِلة لموضوع الغنائية، فإنّنا نسنح الفرصة للملمة بعض القضايا المنهجيّة والمعرفية الّتي نرى أنّ لها أولويّةً ولما في اعتبار من أجل المساهمة في تحديد مفهوم الغنائية وخواصّها ومقوّمات بنائها الداخلي.
1.2. الغنائيّ والغنائيَّة
لا نعثر على ذكْرٍ للغنائية كغرض أو نوْع في تصنيفات القدماء في الشعر العربي، إلّا ما يتّصل بالغناء في حالة إنشاد القصيدة كما هو مأثورٌ عن الشاعر حسان بن ثابت في قوله:
تَغنَّ بالشعرِ إمـَّا كنتَ قائلـَهُ ** إنَّ الغناءَ لهذا الشعر ِ مضمارُ
ما دام أنّ تصوّر هؤلاء لم ينْبَنِ على مقولة الأنواع أكثر ممّا قام على مقولاتٍ أغراضيّة وعروضيّة. لقد انتسبتْ مقولة “الغنائي” إلى الثلاثية اليونانية)ملحمي، تراجيدي، غنائي(، حتّى وإن كان أرسطو نفسه لم يدمجْها في استراتيجيّة بنائه للأنواع التي بدتْ له مائزةً في عصره كالمأساة والملهاة والملحمة. لذلك، يظهر أنّ تاريخ تداول “الغنائيّة” و”النوع الغنائي” في الشعر بدأ فعليّاً مع الإرث ما بعد الأرسطي، واتّسع مع صعود الرومانسية بأوربا، ولا سيّما في ألمانيا وفرنسا.
في تعدُّد التفسيرات المختلفة للثُّلاثية لمْ يُفْضِ الأمر إلى تحديدٍ واضحٍ ودقيق للشعر الغنائي الّذي ظلّ يُعرف بتحديدٍ موضوعيٍّ هو، غالباً، ترجمة للأحاسيس والعواطف، ولم تُحدَّد له ـ عكس الملحمة والدراما، صيغة خاصّة أكثر منها عائمة وسلبية)= كلّ ما ليس سرديّاً أو دراميّاً(. ويلتبس الفهم أكثر في ثقافتنا الشعرية لمّا أُعيد تداول وإنتاج المقولة بصيَغٍ فضفاضة ومتعدّدة لدى العديد من الشعراء ونقّاد الشعر، بدءاً من الاتّجاهات المحسوبة على المذهب الرومانسي، حيث تمّ مماثلة الغنائيّ بمقولات الوجداني والذاتي والعاطفي.
وفي ظلّ تطوُّر الدراسات الحديثة داخل نظريّات الأنواع الأدبية وتحليل الخطاب والشعريّة، أنجزها نقّادٌ أوربيّون)جيرار جينيت، تزفيتان تودوروف، كيت هامبورغر، جان ماري شيفر،إلخ(، طُرحت تصوّرات مغايرة ومتقدّمة أعادت قراءة الغنائية، فبدل أن يُستبدل التقسيم الثلاثي)الملحمي ـ الدرامي ـ الغنائي( بالتعارض القديم بين الشعري والنثري، يُفضي الأمر اختزالاً إلى تقسيمٍ ثُنائي: محاكاة وتخييل، على أساس السّردي. هكذا يُرجع الغنائي، المصطلح الثالث من الثلاثية، إلى مقولة النوع “غير التخييلي” الّذي يتحدّد بأنّ ” أنا ـ الأصل” فيه هو الشاعر نفسه، ذلك الذي يتكلّم في خطابه ب”ملفوظٍ واقعيّ” لا ب”ملفوظ تخييلي”؛ وبالنتيجة، يُرجع الأنا الغنائي إلى التلفّظ التاريخي أو المرجعي. ويستتبع ذلك تحليل طرائق بناء الملفوظ في ضوء الخيارات الأسلوبية والجمالية الّتي تحتمي بها الذّات في تنظيم دوالّ القصيدة وقيمها المهيمنة الخاصّة بإنتاج خطابها الشعري، وهو ما يقودنا إلى اعتبار مقولة الغنائيّ تتوكّأ عليها التجربة الجمالية، ولا تسهم إلّا بالحدّ الذي يُحدّد هويَّة النص. فكما أنّ تصوُّر “الدرامي” يُسهم، بديهيّاً، في التعرُّف على العمل كمسرحية، يكون “الغنائي” هو الوظيفة المهيمنة في الشعر.
2 .2 . السّمات العامة للغنائية:
من هنا، وبمنأى عن كلّ وثوقيَّة، نصدر عن فَهْمٍ يرى إلى النوع الغنائي من خلال السّمات التي ينشأ عنها مثل باقي الأنواع، ويمكن للقارئ أن يحدسها وإن كان يجد صعوبةً في تبرير تصوُّره، لكنّ القول بأن هذا العمل “درامي” أو “ملحمي” أو “غنائي” يتجاوز كثيراً ميدان القراءة المباشرة، ويُقيم في ذاته الفعل النقدي المستند على المعارف التاريخية والنظرية. هذه السمات الّتي تُجْمل ـ بهذه الدرجة أو تلك ـ النوع الغنائي، أو بالأحرى القصيدة الغنائية، هي:
أوّلاً ـ أنْ تأتي القصيدة في العموم قصيرةً وموجزةً وبالغة الكثافة، لكنّها قد تزيد على ذلك إذا رأى الشاعر فيه بلورةً لصوته الإنشادي وموقفه الغنائي داخل القصيدة ومعماريّتها العامة.
ثانياً ـ أنْ تعبّر عن “الأنا ـ الأصل” للشاعر الّذي يتكلّم بقدرما يُفصح عن تجربته الداخلية، صوته الداخلي، عالمه الداخلي بكلّ ما يفضّ عنه من روح جيّاشة في التعبير.
ثالثاً ـ أنّ تتحرّك في سياق نوعيّ ومتنوِّع من التيمات والرؤى المنتجة للمعنى الشعري، التي تستدخلها أنا الشاعر)الحبّ، الرثاء، الإشراق الصوفي، سخاء الطبيعة، مجالس اللّذة والشراب،إلخ(.
رابعاً ـ أن تنقل مجمل القيم الخاصّة بإنتاج “كوْنٍ دلاليٍّ” يفتح الأنا الغنائي على الأشياء والعالم، فلا تُقيم فصلاً بين الداخل والخارج، الذّات والآخر، المحسوس والمجرَّد في مزيجٍ خلّاقٍ يخلق وحدة الموضوع، ووحدة البناء، ووحدة الانطباع المتأتّاة من ذلك جميعاً.
خامساً – أن تكون شفّافةً وعالية التركيز في تدبير نسقها الدّاخلي، لأنّ القصيدة الغنائية تبقى قريبة من الغناء، ومن شفافيّة الغناء بالنّظر إلى نوعيّة بنائها المعماري ككلّ.
سادساً ـ أن يأخذ فيها الإيقاع وضع “الدالّ الأكبر”، لأنّه ينظّم معنى الذّات في خطابها، ويُنْقذ البناء النصّي من التبعثُر والتفكُّك عبر آليّات التكرار والتقفية والتوازي والهندسة الصوتية وتذويت الدّلالة.
سابعاً ـ أن تتخفّف من “الملفوظ التمثيلي”، ومن السّردي الّذي قد يُشيع الروح الدراميّة داخل النصّ، وإن كان ذلك لا يمنع أن تهجر نقاءَها الأنواعي، فتستثمر “الملحمي” في علاقتها بالتاريخ والأسطورة والرمز. ولقد رأينا قصائد كثيرة حملت دلالاتٍ وأبعادٍ غنائيّة جديدة ضمن سياق النص الشعري العربي الحديث وثقافته الجديدة.
إنّ هذه السمات استدلاليّة مشتركة بين نصوص “الغنائيّة” في الشعر، وإذا كانت تمثِّل حدّاً معقولاً من تمثيليّتها ونجاعتها، فهي مع ذلك لا تزعم الإلمام بها، بالنّظر إلى اختلاف تقاليد الكتابة والأسلوب، إذ لكلّ شاعر حقيقيّ أسلوبه، أي عالمه الخاصّ.
تتجاوز الإشكالية المستوى الأنواعي الكلاسيكي المتمثّل في المقارنة بين الشعر والنثر، وتصنيف الشعر ضمن تصنيفات الأدب، إلى مساءلة النسق الأنواعي الداخلي للغنائيَّة ذاتها، ما دُمْنا نعتبر النوع الغنائي ليس سلطة معياريّة قبلية ولا ـ تاريخيّة متعالية على الزمن، لأنّ النوع ذاته نسق داخليّ متحوّل لا يوجد إلّا من خلال النصوص التي تعْبُرها وتُعبّر عنها الذّات في تنظيم معناها داخل الخطاب.
3.الغنائيّة بوصفها خطاباً:
إنّ استشكال الغنائيَّة، وتبعاً للمفاهيم والمقولات المحدّدة له، يدعونا إلى تبنّي مفهوم الخطاب لنقرأ به أشكال الطرائق الّتي تسند تدبير المبدأ الأنواعي الأنواعي للغنائية في الشعر. إنّ الخطاب، هنا، استراتيجية. من جهةٍ أولى، يجعل الخطابُ نصَّ الغنائية مُنْدرجاً في نسق أكبر منه وهو النوع الأدبيّ بالقياس إلى التزام النصّ بقواعده والسمات المكوِّنة له، ومن جهة أخرى، يُحيلنا الخطاب على سياقه التلفُّظي المفرد باعتباره مفتوحاً على وضعيّات التواصل ومقاصد التلقّي والتأويل. إلى ذلك، علينا أن نُراعي بنية الخطاب في الشعر تحديداً، التي تحمل في ذاتها ـ بما هي مكوِّن دلاليّ ـ عناصر تكرارها أو عناصر انحلالها وزوالها. فعناصر التكرار تُدْرك من خلال ما بين أجزاء البنية الدلالية من علاقات ارتباطية يقتضيها منطق النصّ، ويستدعيها أيضاً مبدأ الانسجام ليس باعتباره من مبادئ النصّ المنجز، بل هو من مبادئ الخطاب لمقايسة شعريّة النص من عدمها.
إنّنا لمّا ننظر إلى الغنائية بوصفها خطاباً، يُراد منّا أن نبحث في بنْيته التي توجِّهها البنيات النصّية. وإذا كان التزام النصوص الشعرية ببنيات النوع الغنائي ليس التزاماً كلّياً ولا زمنيّاً، فإنّه يحدث أن تخرج النصوص، أو تحاول أن تخرج، عن مقتضياته جزئيّاً أو شبه كلّي، بحسب أنساق الكتابة وشروط إنتاجها وتلقّيها، كما هو الحال في الخروج على المقدّمات الطللية، أو في الخروج على النمط الأصلي للبيت الشعري، أو في خروج تنويعات الأسلوب الشعري على التئام الذّات وأحاديّة الشكل الكتابي. ويجدر بنا هنا، أن نعي بأنّ اشتغال الغنائية أكثر من وظيفتها لا يتحدّد إلّا داخل خطابها الخاصّ، أي جميع القيم والخصائص المهيمنة الخاصّة بها، وهي:
1.3. الذّات:
تُشكّل الذَّات عصب الغنائية وحافز انبنائها داخليّاً، وقد شاع في نظريّة الأنواع الأدبية أنّ الشعر الغنائي هو شخصية الشاعر نفسها، أو هو الأثر الأدبي الذي يتكلم فيه الشاعر بمفرده، ولذلك فإنّ الذي يتكلم في الشعر الغنائي إنّما هو الشاعر وأناه الأصلية الّتي ترتبط ب “ملفوظٍ واقعيٍّ”. فإذا كان كلّ ملفوظٍ “واقعيّاً” على نحو خاصّ، فإنّ “واقع” الملفوظ ينشدّ إلى تلفُّظه من خلال الذّات الحقيقية والأصلية. هذا ما تُفيدنا به نظرية التلفّظ. يكتب كيت هامبورغر: ” إنّ اللغة الإبداعية التي تُنْتج القصيدة الغنائية تنتمي إلى نظام اللغة التلفُّظي، وهو السبب الرئيسي والبنيوي الّذي من خلاله نتلقّى القصيدة باعتبارها نصّاً أدبيّاً، أكثر من كونها نصّاً تمثيليّاً، سرديّاً أو دراميّاً. نتلقّاها كملفوظٍ لذاتٍ متلفِّظة. إنّ الأنا الغنائية، حتّى وإن كان متنازَعاً حولها، هي الذّات المتلفِّظة”. وفي ما يخصّ الجدال حول مطابقة الأنا الغنائية بالكاتب كشخص، يؤكّد هامبورغر أن ذلك لا يتمّ إلّا في المستوى المنطقي بدون أن نحكم مسبقاً على أيّ علاقة بيوغرافية أنّى كانت، وتضيف: “بطبيعة الحال، يمكن أن تكون التجربة تخييليّةً، بيد أنّ ذات التجربة ـ ومعها الذات المتلفِّظة والأنا الغنائية ـ لا يمكن أن تكون إلّا حقيقيّةً”5. وهذا ما ذهب إليه أدورنو عندما اعتبر أنّ “من يتكلّم داخل الفنّ هو ذاته الحقيقية، وليس الذّات التي تُنْتجه أو تتلقّاه”6. وفي عبورها من المحور اللّساني إلى الأدب، والشعر أساساً، تمتدّ الذات من استعمال عوامل التلفُّظ إلى الانتظام في نسق الخطاب بأكمله. داخل الخطاب، تصبح الذات تاريخيّة اجتماعيّاً وفرديّاً، ومن ثمّ تتمظهر الذّات المتلفظة كعلاقة أو جدل بين الفرديّ والجمعيّ.
إنّ الذات مفهومٌ لسانيّ، أدبيّ وأنثروبولوجيّ، ولن تلتبس مع مفهوم الفرد الذي هو ثقافيّ وتاريخيّ يرجع إلى تواريخ التفرّد. من هنا، يجب الحذر من الحدوس النظرية في الشعر الّتي تُحيّد اجتماعيّة الفرد ـ الذات ـ المؤلف، فإصغاء الذات هو إصغاء للجمعي بقدرما هو إصغاء للتاريخ7.
وقد رأينا، عبر تاريخنا الشعري الذي يظهر كحديقة ملأى بالألغاز والأسرار ـ بتعبير المستشرق ريجيس بلاشير، كيف أنّ الشاعر “يمنحنا ذاته في إنسانيّته وبكلِّ نقائصه، وهو في ذلك يحرص على ألّا يسحقه المجتمع الذي يعيش فيه”8، لأنّ المجتمع يهابُ أو يخشى من ذات الشاعر باعتباره ممثِّلاً للفرد ورمزاً له، فيما كان هو لا يخشى المجتمع الذي ما فتئ يسعى إلى سحقه: مثلاً، ينشغل زهير بن أبي سلمى في معلَّقته بتأكيد حاجة مجتمعه، لأسباب اقتصادية، إلى السلم الذي راح يُفلسفه، أو حاجة عنترة العبسي إلى تأكيد ذاته وذوات كلّ العبيد في مجتمع السادة الذي كان يحول بينه بين حريّته، وإحساس طرفة بن العبد بالمفارقة الحادّة بين الحياة والموت في بيئته الوثنية، وكيف أنّ الشعراء الصعاليك بادروا إلى السلاح في وجه المجتمع الذي يُمارس تغريباً في الحياة على ذواتهم. كما رأينا، بعد ذلك بقرون، كيف امتلك السياب والبياتي ومحمود درويش وأمل دنقل وعياً حادّاً بالتاريخ الذي أعادوا صهره وصياغته في أفق ابتعاث الذّات الجماعية من عجزها. إلّا أنّنا نرى، اليوم، في شعرنا الراهن الذي ترفده قصيدة النثر، نمطاً من الذاتيّة يخرج عن أنماطها السابقة، بحيث صارت الذاتيّة تتجسّد في “الصوت الفردي الحميم، والذات الصغيرة في خوفها ولا يقينيّتها وتردُّدها، وفي أحلامها الكسيرة وتشوُّفها لعالمٍ أكثر عذوبة ورأفة وأقلّ هدير”9.
بهذا الاعتبار، فإنّ التمظهرات الخاصّة بالذّات والذّاتية التي تنتجها الأنا الغنائية وتبلورها داخل نظامها التلفّظي، يجب أن تُحلَّل بناءً على مبدأ نسق الخطاب كاشتغال للُّغة يثوي فيه “بُعْد الحياة” من لدن هؤلاء الذين يتكلمون. هكذا تبقى الغنائية الميدان المميَّز لعمل الذّات وتعبيريّتها، في انحيازها للغناء كشرط لشفافية التعبير في الشعر، بمقدار ما أنّ ” الرؤية الغنائية للعالم، أكانت عدوانية أو أخوية، تستمرّ على هذا النحو عن طريق السحر السامي للكلمة”10.
2.3. الإيقاع:
لقرونٍ طويلة، استمرّ تعريف الشعر الغنائي بأنّه “مجموع القصائد الشعرية التي تُرافقها القيثارة”، ومن ثمّ ارتبط هذا النّوع من الشعر، في الوعي الثقافي والنقدي العامّ، بالموسيقى والغناء. نحن بدورنا لا ننفي القول إنّه ” علينا أن نتذكّر أنّ الموسيقى، في التحليل الأخير، هي جوهر الغنائيّة”، بتعبير صلاح فضل 11، لكن علينا أن ننظر إلى هذا الشعر داخل اشتغاله كنصّ لغويّ وجماليّ، لنُدرك مركز الثّقل الذي للموسيقى، أو بالأحرى للإيقاع الّذي يتجاوز العروض، ونُدرك خاصية الغنائيّة التي يأخذ فيها الإيقاع نفسه وضع الدالّ العضوي والجوهري بالمعنييْن الفكري والجمالي. وإذا كان الغنائية لا تزال مُحاطةً بتاريخٍ من اللّبْس والغموض، فإنّ ذلك ـ في تقديري ـ يأتي من اللّبْس الّذي شاع حول الإيقاع، والعكس بالعكس.
هنا، يجب أن نميِّز بين الإيقاع والعروض، فنعتبر الأول أوسع وأشمل للثّاني القابل للعدّ والقياس. فإذا كان العروض يُسعفنا في ضبط البنية الوزنية للبيت الشعري، فإنّ ليس له ما يُقدّمه في تحليل إيقاع الخطاب باعتباره المجموع التركيبي لكلّ العناصر التي تُسهم فيه، والتي تتمظهر في كلّ مستويات اللغة الشعرية: العروضية، النّظمية والدلالية التي تُحدّد دالّ الإيقاع وطبيعة اشتغاله داخل القصيدة الغنائية. وفي هذا السياق، يرشدنا هنري ميشونيك إلى أنّ “الإيقاع بالغ الأهمية داخل اللُّغة بدلاً من الزجِّ به في العروض، العروض الّذي يقيس الأزمنة التي ليست لأحد، لأنّها ليست لا زمن المعنى، ولا زمن الذات”.12
لذلك، لا يُعرَّف الإيقاع بوصفه وزنيّاً أو صوتيّاً أو نبريّاً فحسب، وإنّما يتعدّى ذلك إلى الخطاب بأكمله، حيث يمكن أن يستند إلى الأبعاد الدلالية للنّظْم بمفهومه البلاغي، وذلك تبعاً لـ “حركة المعنى” وفعاليّته في تنظيم الذات داخل خطابها، المفرد والمختلف. وهذا ما يجعلنا نعتقد أنّ الإيقاع دائماً ما شكّل مختبر المعاني والرؤى الجديدة التي لم تكفَّ الذّوات، من عصر إلى آخر، عن السعي إليها في تواريخ تفرُّدها الخاصّة. هناك تاريخ لإيقاعاتٍ أو “عُقَدٍ إيقاعيّة” لكلّ من المتنبّي وابن زيدون والسياب ونازك الملائكة ومحمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف وقاسم حداد، تمثيلاً لا حصراً. فالإيقاع ليس عنصراً شكليّاً أو مستوى أو حليةً أو مُضافاً، بل هو مبدأ بانٍ ودلاليّ يتشكّل عبر مسار إنتاج الغنائية لمعناها، مجهول معناها.
3.3. المعنى:
على مبدأ المحاكاة تمّ التمييز بين الغنائي والملحمي والدرامي. وفي الصفحة الأولى من كتاب أرسطو طاليس “فنّ الشعر”، نجد تحديداً واضحاً للشعر، فهو فنّ المحاكاة)وبصيغة أدقّ عن طريق الوزن واللغة والموسيقى(، مستثنىً منه ما أنتجه أَمْبِيدُوكْل من آتارٍ كتابية تعرض بواسطة الأبيات)الموزونة( موضوعاً في الطبّ أو في الطبيعيات، بمعنى أنّ أرسطو يرفض ما يُسمّى بالشعر التعليمي، أي الشعر الّذي يفقد شعريّته في ما هو خارج الشعر13 .ولقد انتبه القسّ باتو فيما بعد إلى حصر المحاكاة في “محاكاة الفنون الجميلة” التي تخضع للمبدإ نفسه، بما فيه الشعر الغنائي الّذي يتوزّع في فنون صغرى متنوّعة ومشتقّة منه. وقال ” إذ كلًّما تواصل الفعل كان الشعر ملحميّاً أو دراميّاً، وإذا انقطع وأصبح يرسم الحالة الوحيدة للرُّوح وإحساسها المجرَّد كان الشعر غنائيّاً: ويكفي في هذه الحالة أن نضفي على الشعر الشّكْلَ الملائم حتى يدخل حيِّز النشيد”، معتبراً أنّ الشعر الغنائي يختلف عن غيره من الأجناس الشعرية، ويتميّز عنها بخاصية واحدة: وهي موضوعه الخاصّ.فإذا كان موضوع تلك الأجناس يتمثّل أساساً في الأفعال، فإنّ الشعر الغنائي يختصّ بالأحاسيس، فهي مادّته وموضوعه الأساسي14.
وقد تكون هذه الأحاسيس المعبَّر عنها في الغنائي متصنِّعةً أو أصيلةً، لكنّها تخضع لقواعد المحاكاة الشعرية، بمعنى أن تكون ممكنة التحقُّق ومختارةً ومكتملة كما هي في حقيقتها. وفي هذا السياق، يجب التّذكير بأن المحاكاة في التراث الكلاسيكي لا يعني التصوير المطابق للأصل، وإنّما هو حالة من الخيال. وقد وجدنا الفلاسفة المسلمين يبنون تصوُّرهم للمحاكاة على مقولة التّخييل، وبالنتيجة على وظائف التّعجيب والغرابة واللذّة التي يستثيرها الشعر في النفس، فأرادوا بمصطلح التّخييل الدلالةَ على معنى المُحاكاة الشّعرية، ونظروا إليه بوصفه العلّة الصُّورية للشّعر، وإلى المعاني الّتي يتضمّنها الشّعر بوصفها علّته المادِّية. وكان حازم القرطاجني يرى أنّ “المعاني التي تتعلق بإدراك الحسّ هي التي تدور عليها مقاصد الشعر(…) والمعاني المتعلقة بإدراك الذِّهن ليس لمقاصد الشّعر حولها مدار”.15 من هنا، أمكننا أن نمرّ من مجرّد إمكانية التعبير الخيالي إلى وضعيّة خيالية أساسية للأحاسيس المعبَّر عنها، وأن نُوصل كلَّ قصيدةٍ غنائيّةٍ إلى النموذج المطمئنّ للحوار الداخلي المأساوي حتّى نتمكَّن من أن ندخل في جوهر كلَّ خلقٍ غنائيٍّ ذلك الفاصل من الخيال الّذي بدونه يستحيل تطبيق مفهوم المحاكاة على الشعر الغنائي، كما يرشدنا إلى ذلك جيرار جينيت16.
إنّ المحاكاة والتخييل فالتصوير الّذي يتمّ بهما تحيل كلُّها على عالم الحسِّيات لا المجرَّدات، ولا يتعلق الأمر بتكرار أو تزييف. إنّ كلَّ واحدٍ منهما يمكن أن ينتج أثراً جيّداً، بما في ذلك المحاكيات المطابقة الّتي يمكن أن تنتج نصّاً جميلاً، لكون المحاكاة تستعين هنا بأمور لفظية ووزنية وتقفوية وأسلوبية. ولهذا الاعتبار، رُبِطت المحاكاة بوجوه البلاغة والمجاز لتوصيل المعنى وتأدية دلالاته بطراائق خاصّة غير عادية، على مستوى التشكيل والتأثير. فهي عمليّة مرتبطة بتقديم المعنى أكثر من ارتباطه بالمعنى نفسه.
لن نتتبّع المعنى في تيماتٍ معلومة ومقرّرة سلفاً، ونختصرها في نموذجٍ لغويٍّ فجّ. فالّذي يهمُّ، هنا، ليس المعنى، بل طريقة بلوغ المعنى، لأنّ البحث عن المعنى بمفرده مستقلّاً عن طريقة بلوغ المعنى أو عن البنيات، هو البقاء مقدّماً في مستوى الدّليل. لذلك، علينا أن نسأل: ما هي وضعيّة المعنى في خضمّ الممارسات الدالّة للغنائية في الشعر؟ وما قوانين وآليّات بنائه واشتغاله الداخلي؟ وما علاقة المعنى ببنية النصّ، وسياقه وتداوله؟ وغيرها من الأسئلة التي يفرضها الوضع الاعتباري للمعنى داخل النصّ الشعري عامة، والغنائي تحديداً. لكنّ تفكيراً جادّاً ومختلفاً يجب أن يتجاوز الوضع الّذي ربط المعنى بميتافزيقاه، بالتعليم النفساني للأدب، وأن يبحث في المعنى بالمعنى الذي يكون فيه، بالنسبة لشعريّة الخطاب، باثّاً للدلاليّة التي تتجاوز الدليل المعجمي للكلمات عبر آثار تداعيها مع دوالّ أخرى، فلا ينفصل المعنى عن الذّات والإيقاع. إنّها، جميعاً، رهن علاقة تضمينٍ متبادلة داخل الخطاب، ومتحوّلة باستمرار.
فإذا كنّا، في مرحلة أولى من البحث، ملزمين ببحث طبيعة الغنائية وعناصرها وآثار تشكُّلها في الخطاب، فإنّ ذلك لغاية إبراز عمل الذّات وهي تخترق اللغة بأقصى عنفوانها، وتبني المعنى، المعنى المغاير للمعنى المعجمي، حيث يقول معنى الغنائيّ، بطريقة الخاصّة، أهواءنا ورغباتنا وأشواقنا وخوفنا وطريقتنا في طرد هذا الخوف.
بهذا المعنى، يُفيدنا مفهوم الخطاب في التعرُّف على أشكال التجاوز التي كانت تحدث داخل مقتضيات النوع الغنائي وأنساقه العامة. ويسمح لنا هذا الشكل من التجاوز بمتابعة الغنائية كـ “شكـل حياة”، وبرصد صيغ الثبات والتحوُّل الحادثة في البنيات أو غيرها. نكون، هنا، بصدد العبور من غنائيّةٍ إلى أخرى وفق استراتيجيّة الخطاب لدى هذا الشاعر أو ذاك، حيث لا يتمّ تحليل القصيدة إلّا باعتبارها كاشفةً عن اشتغال المبدأ الأنواعي للغنائية، وعن اشتغال الدوالّ المهيمنة التي تفجّر شعريّة الغنائيّة.
4. قراءة الغنائيّة: محاولة نمذجة
تُفيدُنا هذه المداخل النّظرية، في هذه اللَّحظة من تطوُّر شعرنا وما يستتبع ذلك من تبلور أشكالٍ متنوّعة ومخصوصة من الغنائيّ، أن نقارب الغنائيّة / الغنائيّات من خلال نمْذجةِ تستوعب مجمل الخصائص والسمات الناظمة لها، بحسب أساليب الكتابة ورؤى العالم والخيارات الجماليّة الّتي ينتهجها شعراء العربيّة، من ذاتٍ إلى ذات، ومن شرْطٍ إلى آخر.
إنّ أيّ محاولة نمذجة الغنائية” يقتضي، في الأعمّ، اكتشاف البنيات النصّية والأسلوبية والرمزية الّتي تحتضنها، ولا يتمّ ذلك إلّا من خلال تصوُّر واضح يسندها على تجريبيّة نصّية ذي تمثيلية متنوّعة وعابرة للتاريخ الثقافي للشعر. وأوّل شروط هذا التصوُّر تجاوز إشكال التعالي الأنواعي المحصور في شروط النظرية ومفاهيمها المجرَّدة إلى محايثة الموضوع الغنائي من خلال مبدأ التنويع بوصفه مكوِّناً نصّياً يتمُّ تحديده عبر التماثلات النصّية التي يُعاد استثمارها وتحويلها وتأويلها في إطار ما يُسمّى بلعبة التكرار والمحاكاة والاقتراضات بين النصوص. يسمح لنا ذلك بالتعرُّف على الغنائية باعتبارها خطاباً يرتبط بأنساق الكتابة وفعّاليتها في التاريخ والثقافة، ويدعونا إلى توسيعها وبناء مقتضيات قراءتها وفق سيرورة نسقيّة ـ تأويليّة تستوعبها في نمذجة معقولة تتفرّع عنها جملةٌ من التصنيفيّات الأساسيّة، بحسب الدرجة والنوع:
أ.تصنيفية بحسب معيار الزمن ) قديم، حديث ، معاصر(.
ب. تصنيفية بحسب معيار البناء )بسيط، مزدوج ومركّب(.
ج.تصنيفية بحسب معيار الشكل)عمودي، تفعيلي، نثري (.
د.تصنيفية بحسب معيار التلفّظ )محاكاة، تخييل(.
هـ. تصنيفية بحسب معيار المهيمنات )الإيقاعية، التيماتية، الأسلوبية..(.
و. تصنيفية بحسب معيار التلقّي )التلقائي، الجمالي، التأويلي(.
تظهر التصنيفيّات متداخلة ومتراكبة ومن الصّعب أن نفصل بينها، وقد اعتمدّنا في وضعها على مبدأ التجانس وخاصية التمثيليّة بالقياس استشكال الكثرة والاختلاف والتعدّد. ويكون موضوع النمذجة، بالتالي، تعيين العلائق والاختلافات التي يُظهرها تعدُّد النص الشعري العربي واختلاف بنياته.
هكذا، نحاول أن نقدّم نمذجة أوَّلية تستوعب عدداً من صيغ الغنائية وحساسيّاتها، منها ما ينضبط للتيمات الأغراضية أو الدلالية )الفروسية، الطبيعة..(، ومنها ما ينشغل ببيان الفروق النوعية الحاصلة بين أكثر من شاعر بصدد موضوعٍ بعينه(الحبّ، النُّزوع الصوفي..(، ومنها ما يشرط المعنى باجتماعيّته) الحرب والسلام، الرثاء، الغزل العذري..(.ومنها ما يُقارب النوع الغنائي في علاقته بأنواع الأدب والمعارف الأخرى ) القرآن، الأسطورة، الرموز والنماذج الأصلية، تقنيات المسرح والحكي..(،إلح. وذلك تبعاً لمقولات مرنة تسمح بوضع مختلف تجارب الغنائيّة الكبرى في الشعر العربي على محكّ استراتيجية الخطاب، لمُقايسة مكوّناتها الأسلوبية والجمالية، ودرجة توتُّرها بالموضوع الغنائي.
إنّنا، هنا، بصدد الغنائيَّة كواقعةٍ جماليّة وتاريخيّة ترتبط بأنساق الكتابة في غير عصر وثقافة مُعطييْن، وبشروط التلقّي. فمقولة الغنائية ـ أكثر من غيرها ـ تُظْهر هذا الجوهر الأكثر وضوحاً، العابر للذّوات والأزمنة: أليْس تعتبر أوصاف الطبيعة في رحلة الجاهلي غنائيّةً متنوّعة المؤثّر الّذي يُعبّر عن جدل الذّات ـ الصحراء؟ أيُّهما أكثر غنائيّةً، رحلتُه أم رحلة أبي نواس في تجربة اللذّة والانتشاء؟ ألا يأخذ الرثاء في شعر الخنساء وسْمَ الغنائية السوداء التي تصدر عن عاطفة الحداد، في فقْدها لأخيها صخر؟ أيّهما أكثر تعبيراً عن إيقاع ذاتيّته، الشّنْفرى في الالتزام بتجربة اللّا انتماء؟ أم العباس بن الأحنف في انحيازه إلى الشفافيّة للبوح عمّا يعتمل في داخله من جراح الحبّ؟ أم أبو تمام في تجربة العبور إلى الكتابة؟ ثمّ ما الّذي يجمع هؤلاء بأبي الطيب المتنبي الذي تنفتح فيه غنائيّته على درْس الحكمة؟ ثمّ أليس للشعر المقطعي للموشّح غنائيّة خاصّة في احتفائها بسخاء الطبيعة، وما تجده الذّات داخلها من إحساس طافح بالعنفوان؟
وفي الشعر الحديث الّذي فجّرتْه حركة الشعر الحرّ، ألا نجد انْبِثاق غنائيّات جديدة، حيث تختبر الأنا الغنائيّة معانيَ جديدةً غير معزولةٍ عن أشكال تدبيرها للبناء النصّي وأجروميّاته؟ ألمْ تتولّد داخل الأشكال الجديدة من النوع الغنائيّ أبعاداً تستوعب الملحمي والاجتماعي والنفسي تحت وطأة الإحساس بالزمن، وتمثيلات الخراب والغربة والضياع، ليس فقط عند الروّاد من أمثال السياب وأدونيس ومحمود درويش، بل أيضاً لدى محمد الماغوط الذي يقدم إلينا من تجربة قصيدة النثر؟
وإذا كانت الغنائيّة العربية قديماً تُعبّر ـ كما رأى جمال الدين بن الشيخ ـ عن نفسها في ثلاثة سِجلّاتٍ رئيسية: الحب، الطبيعة والفضائل الإنسانية؛ فإنّ في داخلها تكمن قائمة العواطف العظيمة التي تمثل قانون الإنسانية المشترك، ولهي نفسها تمدّ الشعر العربي الحديث بإلْهامٍ لا يستنفدها، وبأبعادٍ قادرة على حمْل دلالات جديدة في سياق اللّغة، التاريخ والمجتمع.هكذا، تظهر الغنائية كأنّها تُحدّد الجزء الأكبر من الشّعر مهما كانت الأنماط الكتابية المُتّبعة. وإذا كان النقّاد ودارسو الشعر لم يألوا جهداً لتحديدها، لكنّها دائماً موجودة في تجارب الشعراء، ودائماً ما تُلْهم تلك الحركة أو الطاقة التي تستخدمها الكتابة الشعرية بحثاً عن شكل مثالي داخل اللغة، أو عن تلك “الغريزة السماوية” كما يوحي بها كمْ شاعرٌ، ويُنْشدها في تباريح الأرض .
ـــــــــــــ
هوامش
* * عبد اللطيف الوراري
شاعر وناقد مغربي. صدر له ثلاث مجموعات شعريّة: ــ “لماذا أشهدت علي وعد السحاب2005 م، و”ما يُشْبه ناياً على آثارها”2007م، و”ترياق” 2009م. وله دراسة نقدية بعنوان: “تحوّلات المعنى في الشعر العربي” 2009م. حصل على جوائز أدبية في لبنان والعراق والإمارات العربية المتحدة، وشارك في ملتقيات أدبية داخل المغرب وخارجه. ينشر نتاجه الأدبي في عدد من المنابر الثقافية العربية الورقية والإلكترونية (القدس العربي، إيلاف، السفير، العرب الدولية، نزوى..إلخ).
1.نقلاً عن جيرارجينيت: مدخل لجامع النص، ت. عبدالرحمان أيوب،دار توبقال للنشر،ط.2، 1986، ص.70.
2.رشيد يحياوي: الشعري والنثري، منشورات اتحاد كتاب المغرب،2001،ص.42.
3.أنظر صلاح فضل: أساليب الشعرية المعاصرة، دار الآداب، ط.1، 1995، ص.86.
محمد لطفي اليوسفي: أفول الغنائية، الثقافي ضمن جريدة الاتحاد الإماراتية، 24 كانون الأول (ديسمبر) 2009، ص.9.
4.ـ جمال الدين بن الشيخ، الغنائية في الشعر العربي، ت. عبد اللطيف الوراري، القدس العربي،السنة السابعة عشرة،ع.5052، 23 آب/غشت 2005، ص.10.
5. Hamburger K.,Logique des genres littéraires,seuil,1986,p.243.
6.نقلاً عن: Meschonnic H.,Critique du rythme,Verdier,1982,p.208.
7.هنري ميشونيك، المرجع السابق، ص.113.
8.ريجيس بلاشير: الشعر العربي، حديقة ملأى بالألغاز، مجلة بيت الشعر في المغرب، 2003، ص.93.
9.كمال أبو ديب: جماليات التجاور، دار العلم للملايين، بيروت، ط.1 ،1997، ص.333.
10.جمال الدين بن الشيخ، المرجع السابق، ص.209.
11.صلاح فضل، المرجع السابق، ص.85.
12.هنري ميشونيك:المرجع السابق،ص.152.
13.أرسطو طاليس: فنّ الشعر،ت.عبدالرحمن بدوي،دار الثقافة، بيروت، ط.2، 1973،ص.6.
14. نقلاً عن جيرارجينيت: مدخل لجامع النص،م.س.،ص.44.
15. حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1981م. ص.29.
16.جيرار جينيت: مدخل لجامع النص،م.س.،ص.45.
بواسطة admin • 01-دراسات • 0 • الوسوم : العدد الثانى والعشرون, عبداللّطيف الوراري