مايو 21 2014
شعر البحرين ونثره الحديثان- 2- النثر….بربارا ميخالاك بيكولسكا
ب ـ النثر:
يرتبط تطور النثر في البحرين بتطور الصحافة في خمسينيات القرن العشرين. وقد بدأت مجلة (الأضواء) الثقافية الأدبية بالصدور، في عام 1965 ، وبعد أربع سنوات ظهرت مجلة (صدى الأسبوع). على صفحاتهما نشرت أولى التجارب الأدبية لكتاب البحرين المبتدئين. وقد كان تأسيس أسرة الأدباء والكتاب البحرينيين في عام 1969، وإصدار الفصلية الأدبية “كتابات” عام 1976 – نقطة تحول في حياة البلاد الفكرية. مجلة “كلمات” التي ظهرت عام 1983 كانت لسان حال أسرة الأدباء. وتعتبر الآن (البحرين الثقافي) إحدى أبرز المجلات الأدبية الثقافية، وقد أخذت بالصدور منذ عام 1994.
يعبر علي سيار، في أعماله، عن أساه من أن الناس الشرفاء لا يستطيعون إيجاد مكان لهم في هذا العالم إلا بصعوبة بالغة. إن طمع المال وعشق السلطة يحطمان الفرح وجمالية الحياة.
تعكس قصص محمد الماجد أفكار جيل كامل، وهواجسه، وقلقه، وهي تعتبر وثيقة قيمة، ومثيرة للاهتمام.
جوزيف كونراد يؤكد أن الفن هو أذن العالم وعينه الكبيرتان، أنه يسمع، يرى، يحس بالخجل، يثير، ويوقظ الضمير.
وهذا فعلا ما يميز أعمال خلف أحمد خلف، الذي يزاول نشاطات صحافية ومسرحية كثيفة. في نصوصه يقدم صورة للناس الذين لم يستعدوا لملاقاة الحياة ومشاقها. وهم سلبيون يستسلمون لأقدارهم، ولا يناضلون من أجل مصير أفضل.
يقدم محمد عبد الملك في قصصه خلاصة تجاربه الحياتية. ومن خلال أسلوبه الواقعي يعطينا وصفا لحياة البحرين قبل اكتشاف النفط، ويظهر حيادية المجتمع السلبية بإزاء الظلم الواقع على الضعفاء. يبتعد الكاتب عن السياسة مركزا على القضايا الأخلاقية، ويتناول موضوعات عامة، مثل: العزلة، والماضي، والخوف، والتمزق الداخلي في النفس. محمد عبد الملك يثبت أن بساطة الأسلوب لا تعني عدم القدرة على بناء عمل إبداعي متعدد الأبعاد.
العالم المتخيل في أعمال عبد الله خليفة حافل بالتأملات الشخصية والتفكر بأمور الحياة، وكذلك بالتجارب، والهواجس، والمخاوف؛ فالحياة مليئة بالمصادمات مع الأقدار، وبتجليات الصراع من أجل البقاء، وبالمعضلات، والنزاعات الداخلية. والناس يحتكون بشكل دائم بالعقبات الصعبة. وبغض النظر عن حبكة قصصه المتعرجة، فالكاتب يلمح أن هناك قيما عليا؛ تعطي الإنسان القوة لمحاربة كل صنوف الشقاء، وتحديات القدر. وهذه القيم هي الفرح بالحياة، والقدرة على رؤية جمالية الكون، والانسجام مع المحيط، واحترام التقاليد، والحرية، والحب، والأمل.
أحداث قصص عبد القادر عقيل تتطور وفق ما خطط لها المؤلف، الذي من خلال الاستذكار، وتداعي الأفكار، يلغي الطريقة التقليدية لسرد الأحداث حسب تواليها الزمني المنتظم. معظم أعماله يقتصر بناؤها على مجال التخييل، والأحلام، والتمنيات.
الإبداع الأدبي ليس فقط جهدا كتابيا صعبا، بل هو فرح يتأتى من خلال عملية الكتابة، التي تنتج واقعا آخر يتحكم فيه المبدع. ومثل هذا الواقع أنتجته فوزية رشيد التي أفلحت في الوصول إلى طعم العصر، وحققت كتبها نجاحا كبيرا في الساحة الأدبية. وهي تبرز المصير الفاجع للناس الملتزمين بالنضال من أجل الحرية والعدل، المدافعين عن حقوقهم وكرامتهم. يجعلنا أبطال فوزية رشيد نبحث عن المعنى، والغاية، والدوافع التي تحركهم، وتترك فيضا من الأسئلة لا ينتهي. وهم أناس نلتقيهم في الشارع، يختلفون عنا كثيرا، وفي الوقت نفسه يشبهوننا كثيرا. السؤال عنهم هو السؤال عن أنفسنا. هزيمتهم لها طعم مر كطعم هزيمتنا. حياتهم واقعية تبعث الخوف كحياتنا.
تمثل أعمال نعيم عاشور نظرة جديدة غير مباشرة إلى العالم معتمدة على استخدام أدوات تعبيرية جديدة. لا يمكن تحليل مجموعاته القصصية كلها من وجهة نظر عقلانية، فتعددية المعنى ميزتها المشتركة.
فريد رمضان، على ما يبدو، مشدود لموضوع الموت؛ حيث يبحث بشكل دائم عن أجوبة لأسئلة متعلقة بماهية الموت ومسألة ترقبه وقدومه. غالبا ما يتناول قضية معنى الوجود الإنساني في هذا العالم، من خلال الاتكاء على الماضي، والتاريخ، والدين، تاركا مجالا واسعا لتأويل أحكامه الخاصة.
إن أول مجموعة لمنيرة الفاضل “الريمورا” تحتوي على قصص ذات موضوعات اجتماعية، تتناول فيها القضايا الحساسة بين الرجل والمرأة. تعالج موضوع العلاقات في الأسرة الواحدة، وتكشف عن مكانة الأم والأخ الأكبر المعنوية. في مجموعتها “للصوت.. لهشاشة الصدى” منيرة الفاضل لا تمس القضايا الوجودية وحسب، بل الصوفية أيضا. وهي مرتبطة بالحياة اليومية ومواجهة الواقع. يدرك الأبطال أن الميزة الأساسية لوجودهم هي التغير، فكل شيء خاضع للنمو والانقضاء. إن السمة الرئيسة لقصص منيرة الفاضل هي أن الأبطال في غالبيتهم يظلون مجهولين. فليست مهمةً أسماؤهم، وأصولهم، ولا يهم من هم. ترسم الكاتبة أمام عيوننا مشهدا شاملا غنيا بالحياة الاجتماعية المتنوعة.
يقدم جمال الخياط في مؤلفاته النثرية صورة واقعية للحياة البحرينية المعاصرة. فالشخصيات الأدبية منغمسة في صراعات، سببتها المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية. والأبطال كثيرا ما يتعرضون للاختبار فيخرجون منتصرين. إن مؤلفات جمال الخياط تشير إلى التزامه الشديد بالقضايا الاجتماعية المتعلقة بتطور البحرين.
عائشة الغلوم تبني قصصها حول المفاهيم الأساسية الأخلاقية والوجودية، مثل: الخير، والشر، والوحدة. وهي تعبر عن موقفها المضاد لانعدام التضامن بين الناس، وفقدانهم الإحساس بعذابات الآخرين.
تطرق أعمال حسن بو حسن موضوع الريف البحريني، مشكلاته، وعاداته، وتقاليده. أبطاله هم عادة كبار السن الذين خبروا الحياة جيدا. المؤلف يتحدث بحنين عن الريف، الذي تغيرت معالمه بعد اكتشاف النفط.
يتركز بعض قصص مهدي عبد الله حول صراع الناس اليومي مع الواقع المحيط. أعماله تمثل شكلا واقعيا لإظهار عملية التحولات الاجتماعية، والتغيرات في علاقات الناس، وظروف معيشتهم.
نتعرف إلى الأبطال في قصص سعاد الخليفة من خلال مونولوجاتهم الداخلية. ليس صعبا أن نلحظ ضياعهم في هذا العالم، وهم يحاولون إيجاد الطريق الصحيح في حياتهم. تغدو مراقبة الواقع نقطة انطلاقهم، والكاتبة تجهد في وصف حالات الأبطال الداخلية، ودقائق الأمور التي لها تأثير في نفسية البشر. ويتحقق هذا كله بلغة تصويرية بالغة، محملة بالمجازات، والوصف، والتشبيهات.
حسين المحروس لا يبتعد عن تصوير المتغيرات بين الأجيال. في أعماله ينحو منحى فلسفيا، ولا يقبل في الوقت نفسه بمظاهر الظلم في الحياة الواقعية.
تصور قصص أنيسة الزياني، جميعها، الحياة كطريق حافل بالتحديات، والعوائق، والتضاد. وتقدم عالم الشخصيات قريبا منا، فهو يمثل المجتمع المعاصر، على خلفية المشهد الاجتماعي الحياتي وتقاليده. الكاتبة تسعى إلى التقاط لحظة رحيل الواقع القديم، واستشراف الواقع الجديد.
تتناول معصومة المطاوع المشكلات العامة التي تخص المجتمع العربي، وتصور في معظم قصصها حياة الأسرة، وعاداتها، مركزة على مأساة النساء، والظلم، وضعف شخصية الإنسان، ومشكلة إدمان الخمر والمخدرات.
أعمال أحمد الحجيري ما هي إلا مقاطع قصيرة من الواقع المعيش. والشيء الأهم فيها تصوير قدرة الإنسان في الاختيار عند الضرورة، وفي حالة المواجهة.
يصور وليد هاشم في رواياته العالم الذي قد تعرض للتشويه، والقيم التي تساقطت، وصراعات الأجيال، وتفاهات التفكير، والوجود.
من الصعب في هذه المرحلة، من مراحل التطور الإبداعي العاصف، أن نلخص شعر البحرين ونثره المعاصرين. ما لا يشك فيه، أن إبراهيم العريض، وأحمد محمد آل خليفة، وعلي عبد الله خليفة، وعلوي الهاشمي، وقاسم حداد، وحمدة خميس ينتمون إلى جيل الشعراء الذين أثرت إبداعاتهم الأدبية، بشكل كبير، في تطور الشعر الحديث. ومثل هذا الدور المهم في النثر قام به محمد عبد الملك، وأمين صالح، وفوزية رشيد، وعبد القادر عقيل، وكذلك عبد الله خليفة. وتعتبر أعمالهم، بمعنى من المعاني، وثيقة أدبية مهمة. لقد أدخلوا طريقة جديدة تنظر إلى العالم من منظور آخر عبر أدوات تعبيرية جديدة. إن الأدب البحريني المعاصر، بكامله، يبدو منغرسا عميقا في تربة التقاليد القومية. بيد أن الشعر قد تطور تطورا ديناميكيا كبيرا، وخاصة التحول الذي طرأ على شكله التقليدي. فمن الشعر العمودي، مرورا بالشعر الحر، الذي تأسس على التفعيلة، وصولا إلى قصيدة النثر، تغير مسار الشعر العربي الحديث. من خلال الكلمات الدقيقة المعبرة، وتوظيف الصور البيانية المبتكرة، حقق الشعراء إنجازات هائلة في دقة التعبير اللغوي. وأصابت هذه الصحوة الإبداعية النثر أيضا، وأدت إلى تفجر المواهب الإبداعية، والتزام الكتاب الواضح بقضايا المجتمع، ومسائل الناس المصيرية.
يتناول الأدب البحريني موضوعات مختلفة من زوايا تفسيرية، أو فلسفية
متعددة. نجد فيه مكانا للإنسان المعاصر، وموقعه، ودوره في العالم، واغترابه، ومشكلة الفراغ الروحي والنفسي، والتوق إلى الزهد. لقد أثرت التجارب الشخصية في الأدب الحديث، مؤكدة فردانية المبدعين، ولكن أعمالهم الإبداعية لم تخل، أيضا، من التمرد على الحرب، والاحتجاج على الواقع القاسي، الذي لا يعطي الإحساس بالأمن والطمأنينة.
بربارا ميخالاك بيكولسكا
مايو 2 2015
الإبداعات الأدبية العربية كمصدر إلهام للشعراء والكتاب البولنديين … د.بربارا ميخالاك
الإبداعات الأدبية العربية كمصدر إلهام
للشعراء والكتاب البولنديين
ــــــــــــ
د.بربارا ميخالاك ـ بيكولسكا*
مرات كثيرة في تاريخ الأدب البولندي، تم لفت الانتباه إلى الإبداعات العربية التي كانت مصدر إلهام لكتابنا.
لقد كان التوسع الجغرافي للعرب ، والاحتكاكات السياسية والثقافية وأسفار الرحالة إحدى أهم العناصر التي أدت إلى وصول الموضوعات والأجناس والأشكال الأدبية العربية إلى القارة الأوروبية ومن ضمنها بولندة.
حتى بداية عصر الفتوحات، بعد موت الرسول محمد عام (632م) مباشرة،كان للعرب حصيلة ثقافية غنية ازدهر فيها الشعر البدوي، الأمثال المتنوعة، الأساطير، الحكايات والسير الشعبية التي مازالت غير مكتوبة، تعيش حية في تقاليد العرب تتناقلها الشفاه.
إن العلاقة والاحتكاك بالحضارات العرقية التي مركزها سورية والعراق وفارس ومصر أديا، مع مرور الوقت ، إلى تطور آداب وعلوم العرب وإثرائها.
إن بغداد التي اشتهرت كموئل للثقافة والأدب أصبحت عاصمة الخلفاء العباسيين منذ عام 750 إلى عام 1258م منهم الخليفة هارون الرشيد (786-869)الذي اشتهر برعاية الشعراء والعلماء وإكرامهم ، والذي تردد إلى قصره أبو نواس شاعر الحب والخمر، ورفيق الخليفة في حكايات “ألف ليلة وليلة؛. أما الخليفة المأمون (813-833) فقد أسس “بيت الحكمة” الذي أصبح بمثابة أكاديمية علمية ودار ترجمة ومكتبة عامة يتوافد إليها العلماء والأدباء من أقصى أقاليم الدولة التي امتدت، في هذه الحقبة، من شواطىء المحيط الأطلسي وحتى أطراف الهند.
حتى نهاية القرن الحادي عشر،تطورت في الشرق الإسلامي الأجناس الشعرية والنثرية العربية، ومن كنوزها الزاخرة بالإرث الأدبي الشرقي نهل الغرب الشيء الكثير. وقد أدت الفتوحات إلى تسرب مؤثرات الأدب العربي إلى أوروبة عبر ثلاثة طرق؛عن طريق إسبانية، وصقلية، وسورية.
في بداية القرن الثامن سيطر العرب على شبه الجزيرة الايبيرية وبقوا فيها حتى ليلة سقوط غرناطة عام 1492. يعود الفضل –بصورة كبيرة-إلى المسيحيين المعريين، في دخول عناصر متنوعة من الأدب العربي إلى الأدب الإسباني، ومن بعده إلى ألأدب الفرنسي الذي منه بشكل أساسي أخذ الكتاب والشعراء البولنديون بشغف بالغ نماذج وصوراً لإنتاجياتهم.
في عام 827هيمن العرب على صقلية بصورة كاملة، وفي عام 1091خسروها نهائياً.
وقداهتم النورمانديون وأسلافهم ابتداء بروجر الأول الذي حكم صقلية في أعوام (1091-1101)، بالأدب العربي، ومن هنا امتدت معرفة هذا الأدب إلى شبه الجزيرة الإبنينية وحتى وصلت أوروبة الوسطى.
انتقلت إلى أوروبة موضوعات متعددة من الأدب الشعبي العربي الثري، عن طريق سورية التي أصبحت منذ منتصف القرن السابع الميلادي في ظل الحكم العربي،وقد ساهم الصليبيون (القرن الثاني عشر-القرن الثالث عشر) والحجاج المتوافدون إلى الأراضي المقدسة في نقل هذه الموضوعات.
في العصور اللاحقة اسهمت أعمال العلماء والرحالة والمستشرقين في تهيئة الأرضية لنشر الإبداعات الشعرية والنثرية الشرقية. حينما نتكلم عن تأثيرات الأدب العربي فإننا نقصد بذلك تأثيرات أدب العصور الوسطى الذي تكون في الفترة الممتدة منذ عام 750وحتى 1055م لأن الأدب قد ضعف وانحط مع فقدان العرب لاستقلالهم السياسي في بداية القرن السادس عشر،ولأن النهضة لم تحل إلا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
أخذت تأثيرات الأدب العربي تبرز في الأدب البولندي منذ بدء مرحلة النهضة الأوروبية (رينيسانس)،في القارة الأوروبية في منتصف القرن الرابع عشر وحتى القرن السادس عشر.أول قصة خرافية ظهرت في بلادنا كانت ذات طابع أخلاقي وهي ترجع بأصلها إلى الشرق، وكان أول من أشاعها كاتب الحكايات البولندي بيرنات من لوبلين (1465-1529).على الأرجح أنه في عام 1522قد نشر في كراكوف مجموعة حكايات شعرية بعنوان”حياة إيزوب فريغ”،مسبوقة بسيرة إيزوب 1 مترجمة من اللغة اللاتينية، إن قصص لقنان2 العربية هي المقابل لحكايات إيزوب، لقد ذكر الشعراء العرب القدماء لقمان الحكيم في أعملهم وكذلك النبي محمد سمي باسمه السورة الحادية والثلاثين من القرآن الكريم.
في القرن السادس، وبطلب من الملك الفارسي انوشروان (531-578) ترجمت مجموعة من الحكايات الهندية “بانتشاتانترا” من اللغة السانسكريتية إلى الفارسية المتوسطة (البهلوية)، وقد عرفت هذه المجموعة القصصية باسم “كليلة ودمنة” في حوالي سنة 750م ترجم ابن المفقع3 هذه القصص إلى اللغة العربية، وهنا يجب أن نشير إلى أن النصين السانسكريتي والبهلوي قد ضاعا، فأصبحت النسخة العربية لهذا الكتاب، المرجع الأساسي للترجمات الراهنة إلى اللغات الشرقية والغربية على حد سواء .
وفي عام 1251 ، وبمبادرة من الملك القشتالي وليون الفونس العاشر ترجمت كليلة ودمنة إلى اللغة الإسبانية ومن ثم إلى اللغة العبرانية واللاتينية اللتين أخذ منهما يان من كابوي هذه القصص ووضعها في مجموعته “ديركتوريوم هوماني فيتاتا” (حوالي 1270م).وبعد ذلك وصل الكثير منها إلى كتاب “غيست رومانوروم” باللغة اللاتينية(حوالي 1330)، ومنه ترجم يأن من كوشيتشك ويان من سونتش (سانديتسكي) حوالي أربعين حكاية ووضعاها تحت عنوان “قصص رومانية”(حوالي 1540م).
على الأعلب أن أندريه مارستيليلي وهو من أصل إيطالي كتب في ثلاثينيات القرن السادس عشر ثلاث حكايات باللغة البولندية هي:”انتقام العبد”،”القس المزيف”و”الكاهن المجرم”.
الحكاية الأولى لها جذور في كتاب “مروج الذهب،للمسعودى،وهي تتحدث عن أحد العرب الذي أمر بخصي خادمه الهندي بعد تردده إلى زوجته .ينتقم الخادم من سيده ولا يتسبب بخصيه وحسب ،بل ويتسبب بموت ابنيه أيضاً. هذه الحكاية نقلت، على ما يبدو، إلى إيطاليا بوساطة الصليبيين.
في القرن السادس عشر ساد موضوع وصف الحج إلى الأراضي المقدسة. ميكولاي رادزيفيل المدعو “باليتيم” (1549-1616) أظهر اهتماماً واسعاً بهذا الموضوع في كتابه “رحلات إلى الأراضي المقدسة وسورية ومصر، (1582-1584)،وفي مجلته أفسح المجال لوصف هذه البلاد العجيبة بالنسبة للبولنديين، وأعطى لمحة عن سكانها وعن ثقافتهم المادية وعاداتهم وتقاليدهم. ولقد أفاد مما أخبره به السكان المحليون في كتابة يومياته،التي حاول من خلالها وسعى إلى بعث الاهتمام ببندان الشرق في نفوس مواطنيه.
لقد تسريت الموضوعات الشرقية كذلك إلى أدب الباروك الذي ظهر أول ما ظهر في القرن السادس عشر في إيطاليا وإسبانيا، وبعد ذلك تفاعل وتغلغل في أوروبة كاملة واستمر حتى القرن الثامن عشر. لقد كان أندريه مورشتين (1621-1693)،الذي كثيراً ما ارتحل في أوروبة الغربية، الممثل النموذجي لهذه المرحلة، وقد خلف دبوانين شعريين هامين هما: “سيريوش أو نجمة الكلب”(1647) و”العود” (1661). هذان الديوانان يحتويان بشكل أساسي على أشعار الحب التي كان مرجعها المباشر شعر القصور العاطفي الفرنسي والإيطالي القروسطي.
كان الشاعر الإيطالي مارنيين الذي ابتدع الأسلوب الشعري المسمى “بالمارنينية” (1569-1629) المثال والنموذج الأول لمورشين، وكذلك الشاعر الإسباني غونغور من قرطبة (1561-1627) الذي ابتدع الأسلوب المسمى باسمه،كان مثالاً له. لا شك إن الشعر الغنائي العربي في الأندلس قد أثر في أعمال غونغور الشعرية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الشاعر العربي البارز ابن زيدون (المتوفي 1070) قد أبدع في مدينة قرطبة إلى هذه المدينة يعود أصل ابن حزم (المتوفي1063) صاحب كتاب “طوق الحمامة”،الذي يحتوي على أمثلة من أشعار الحب العذري.
كتب ايغناسي خرانوفسكي عن شعر مورشتين أنه يستل من هذه الصور،على سبيل المثال: “عيناك ليستا عينين ،لكنهما شمس” “شفتاك ليستا شفتين، إنهما مرجان أحمر”.
“يؤكد الشاعر أنه بسبب الحب يفقد عقله ويموت، أويتحول إلى رماد ،يتعجب انه يعيش في البكاء محترقاً وسط النيران ، وبعد ذلك يزداد عجبه كيف بقي على قيد الحياة حينما لم يبق له قلب، فهذا القلب لن يعد ملكاً له”4.
وإتماماً لهذا الكلام يمكن القول أن هذه التعابير تحتفظ بشيء كبير من الأمانة للنصوص الأصلية لقصائد الحب العربية، التي تسربت عبر إبداعات غونور وماينين إلى الشعر العاطفي الغنائي لمورشين.
في عصر التنوير الذي دخل تاريخ الثقافة الأوروبية منذ نهاية القرن السابع عشر في إنكلترا واستمر حتى نهاية القرن الثامن عشر، نفذ الاستشراق إلى الأدب البولندي، بصورة أساسية، بوساطة الغرب وعلى الأخص الأدب الفرنسي.
بعد ترجمة غالاند5لقصص “ألف ليلة وليلة”،وبعد انتشار أعمال فولتير التي نضمنت موضوعات عن الشرق، سرعان ما ظهرت ترجمات بولندية وأعمال نقل حر غير مقيد للإبداعات العربية. وقد ساهمت المجلات في نشرها ومنها مجلة “مونيتور” التي صدرت عام 1765 واستمرت حتى نهاية عام 1785،وكذلك مجلة “اللهو المفيد والممتع”التي ظهرت في أعوام 1770-1777.في مجلة “مونيتور” نشرت أول ترجمة لبعض حكايات “ألف ليلة وليلة” بالاعتماد على نص غالاند الذي تأسس على النص العربي مباشرة. إلا أن ترجمة كتاب ألف ليلة وليلة كاملة تمت على يدلوقاش سوكولوفسكي وأخذت عنوان “مشاجرات عربية”6. في أعوام لاحقة ظهرت بعض الحكايات في نسخ منفردة، ومنها قصص السندباد البحري التي ظهرت تحت عنوان “الرحالة التركي”7و”عن الأميرة نور النهار”8.
أما إيغناتسي كراشيتسكي(1735-1801)فكان له دور كبير في تعميم الاستشراق في الأدب البولندي إبان عصر التنوير،مدخلاً عناصر فنية شرقية كثيرة سواء في كتابة الحكايات الخرافية أو في النثر عامة متماشياً مع “الموضة”التي هيمنت على آداب زمانه والتي سلمت بالأسلب الشرقي واتخذته مثالاً لها.
تأثير الشرق في أعماله تبدى في جنسين أدبيين، أولهما الحكاية المكتوبة بشكل نثري والتي تحتوي على عناصر أسطورية، ثانيهما الخرافية المكتوبة شعراً،وهي حكاية قصيرة تعليمية بشكل تلميحي تأتي على الأغلب في صورة رمزية تخفي في طياتها المضمون الحقيقي والفاعل وإشكالية الحياة المعاصرة لها.
في عام 1779ظهرت مجموعة “حكايات وخرافات تعليمية”التي كتبها المؤلف في فترة 1776-1778م،أما “خرافات جديدة”فاشتغل بها في أعوام 1786-1800م.إن مصدر الإلهام لهذه الحكايات هو ديوان لافونتين9الذي استفاد من قصص بيلبايا وإيزوب ولقمان. في حكايات كراشيتسكي نرى عدة أمثلة وشواهد تدل بوضوح على أصلها العربي،مثلاً في “غرسة عنب” التي تبدأ بهذا الشكل : “يقول العرب إن قضيب العنب غرسه آدم..”.
تظهر هذه الحكاية في صورتها الأولى في “غيستار ومانوروم”10ولكن كراشيتسكي، وربما بوساطة مترجم فرنسي غير معروف، أظهر أصلها ووجهها العربي الذي رسمه عالم الحيوانات العربي الضامري (1341-1401)11.
عدا ذلك فان كراشيتسكي هو مؤلف تسع عشرة “أحدوثة شرقية” مقتبساً مواده من مصادر مختلفة لم يكشف عنها، قام بتحوير وتغيير ما شاء له من ذلك وفقاً لما ناسب ذوقه فبدت حكاياته بعيدة عن الترجمة الحقة.من الممكن جداً إن كراشيتسكي قد اطلع على “ألف ليلة وليلة” من خلال ترجمة غاللاند أومن خلال ترجمة سوكولوفسكي.
في رسالة مؤرخة في 15يناير 1783 وموجهة إلى أ.ه. ليهتدروف يعترف المؤلف أنه على معرفة بكتاب الليالي العربية فيقول:
“قصصت وقت وجبة العشاء حكاية الأحدب الصغير التي أخذتها من كتاب يدعى “ألف ليلة حسناوات العاصمة”.
تحتفظ أقاصيص كراشيتسكي بلونها الشرقي وتأخذ طابعاً أخلاقياً وتنفذ المهمة الفكرية التي تحملها الحكايات الشرقية، وهذا ما وعاه كراشيتسكي نفسه حيث كتب في مقدمة لإحداها: “للحكايات الشرقية اعتبار خاص لأنها تظهر الأحداث الممتعة وكذلك لأنها تمتلك هدفاً تعليمياً”.
لقد أغنى فرانتشيشيك كارينسكي (1741-1825)،الملقب من قبل معاصريه “بشاعر القلب”،الأدب البولندي بقصيدته الوجدانية “الوزير جعفر إلى الخليفة هارون الرشيد”12.لقد كانت دوافع الشاعر لكتابة هذه القصيدة حكاية عباسة أخت هارون الرشيد وزواجها غير الموفق من جعفر البرمكي.يغص هذا العمل بالعواطف الجياشة للبطل ويمتلىء بالوجد والهوى والمشاعر الحارة ،ووفقاً للرأى الذي كان سائداً في ذلك الوقت في بولندا فإن الوجد والعاطفة الجياشة هي الصفة البارزة المميزة لشعوب الشرق.حكاية زواج عباسة من جعفر كثيراً ما ظهرت في قصص التاريخ حول هذا كتب الطبري (المتوفي 923)والمسعودي (المتوفي عام 956)وابن خلدون (المتوفي عام 1406).
في وصفه الأدبي لرحلته إلى تركية ومصر سعى العالم والكاتب يان بوتوتسكي (1761- 1815) إلى أن يعطى صورة صادقة عن هذين البدين بعيدة عن الآراء المسبقة والاعتقادات السيئة السائدة حولهما. لقد جمع ملحوظاته الشخصية والأخبار التي سمعها من الناس خلال رحلته هذه وعززها بمعلومات عن الأدب والتاريخ.بالإضافة إلى انطباعاته عن سحر الشرق وإنذهاله به،كتب في شكل رسائل إلى أمه ست حكايات شرقية وأسماها “رحلة إلى تركية ومصر”.
حكاياته جميعاً تعلم الحكمة المأخوذة من الحياة العملية:لا ينبغي الثقة لا بالنساء ولا بالأصدقاء ولا ينبغي الركض وراء الثروة والنعيم، فكل شيء زائل حتى المجد والشهرة.من خلال كتابة القصص الحكائية الشرقية أظهر بوتوتسكي معرفة قوية بحياة وثقافة الشرق، وعدا ذلك فقد استفاد من أعمال المستشرق الإنكليزي وجونس
Commentariorum libi sex (1774)
Poeseos asiaticae وكان الكاتب الفارسي سعدي (القرن الثامن) ، الذي استخدم اللغة العربية في أعماله الأدبية ،مثالاً له .
أظهريان بوتوتسكي مهارته كأديب وعالم حين دون بشكل يومي ساردا”رحلته إلى المملكة المغربية”التي استمرت ثلاثة أشهر منذ الثاني من تموز وحتى الثامن من أيلول 1791. وقد أبرز فيها العلاقات الاجتماعية والسياسية المثيرة، والعادات والتقاليد المختلفة، وكثيراًُ ما ألقى نظرة على الماضي التليد.وقد أعطى تشخيصاً عاماً للشعوب القاطنة غرب أفريقية ، محدداً الاختلاف بين مسلمي المشرق ومسلمي المغرب.
“المخطوطة المكتشفة في ساراغوزا”هي
الرواية الأكثر شهرة وشيوعاً ليان بوتوتسكي، وهي تنتمي إلى أفضل الأعمال الأدبية العالمية. كتب المؤلف هذه الرواية بين أعوام 1803-1815وقد نشر فصولاً منها باللغة الفرنسية أصلا13،ولم تظهر باللغة البولندية إلا في عام 1847في لايبزغ وذلك بعد موت كاتبها،حيث ترجمها ك .إ. خويتسكي كاملة.
ساهمت في نشوء فكرة الرواية ظروف عديدة، منها مشاركة الكاتب في قيام سفن الحملة المالطية ضد القراصنة البربر عام 1778. وهو في ذلك الوقت زار الشواطىء الشمالية الأفريقية ودخل جزيرة جربه. بعد ذلك، في عام 1791،بدأ رحلته إلى إسبانيه، وتعرف فيها إلى ابن عثمان الذي زوده بمواد وأقاصيص مثيرة لكتابة الرواية.
أسس بوتوتسكي مخطوطته على شكل حكايات “ألف ليلة وليلة”حيث تكون القصة داخل قصة على شكل علبة داخل علبة،وهذا الشكل سمي “بقصص الحب في العلب”.
الوقائع التي أدت إلى قيام رواية الحب هذه اعتمدت على الأسطورة الأدبية وهي:
“على ما يبدو فإنه كتب هذه الرواية كي يرضي زوجته معززاً وقائعها كما يلي:خلال مرض الزوجة المستمر قرأ عليها القصص العربية من كتاب “ألف ليلةوليلة”.عندما قرأ الكتاب حتى النهاية بدأت زوجته بالملل وطالبته بالمضي في قراءة شيء مشابه يسليها ويلهيها عن المرض.فقام الزوج بكتابة فصل من روايته كل يوم، وفي المساء تلاه على زوجته بصوت مسموع”.
بغض النظر عن هذه الأسطورة، فان كتاب سير فانتس “دون كيخوت”قد أثر، على الأرجع في ولادة هذه الرواية، وقد ترجم “دون كيخوت” إلى البولندية أول مرة على يد فرانشيشيك بودوسكي وصدر في وارسو عام 1781.إن سيرفانتس على ما يبدو قد أفاد في كتابة عمله من المخطوطة العربية التي كتبها حميد بن ننغالي والتي تسريت إليها بعض حكايات “ألف ليلة وليلة”.
“المخطوطة المكتشفة في ساراغوسا” تشهد على مطالعة بوتوتسكي الجمة للكثير من الكتب وعلى معرفته بالإسلام وبتاريخ البلاد العربية، ففي خلفية العمل نرى فرادة وعجائبية العالم الإسلامي الذي عرفه الكاتب جيداً من خلال تجربته الشخصية.
لقد بلغت”موضة”الاستشراق أوجها ووصلت إلى ذروتها في عصر الرومانسية التي مثلت تياراً فكرياً وأدبياً أخذ بالنمو منذ تسعينات القرن الثامن عشر وحتى أربعينات القرن التاسع عشر في أوروبا وأمريكا.
أبدت الرومانسية،بعد مرحلة التنوير،إعجانها بالغرائبexotism وأعادت تشكيلها بطريقتها الخاصة. وقد بدأ البحث عن المهرب من الواقع المؤلم إلى عالم الخيال الذي ترسم أفقه الحكايات الأسطورية.لقد سلب الشرق خيال الشعراء البولنديين عندما شاهدوا عالمه السحري الآسر في أعمال بايرون ومور ولامارتين وفولتير.
رأى الشعراء البولنديون، وعلى الأخص منهم، آدم ميتسكيفيتش ويوليوش سلفاتسكي في بايرون معبودهم ومثالهم الأعلى، وانعكست صور أبطاله الكئيبين الذين كانوا في صراع مستمر مع العالم، في أعمالهم الشعرية.
إن نمو العلوم الاستشراقية ساهم في تطور الأدب الذي تناول الشرق،وهكذا نرى أن الدور الكبير الذي لعبته فيلنوس كمركز نشط فيه المستشرقون البارزون مثل ميخال بوبورسكي (1784-1848)، ويوسف سينكوفسكي(1800-1859)14 والاسكندر خوتشكو (1804-1891)، واللغوي الكلاسيكي الذي عرف اللغة العربية جيداً غ.إي.غروديتسك(1786-1825)،والمؤرخ ج.ليليفل (1786-1861).بفضل هؤلاء المستشرفين يمكننا أن نلاحظ، بصورة خاصة، تأثير الإبداعات العربية في الأدب البولندي.
إن القصائد العربية الزاخرة بالمشاعر الحارة، المشرقة بألوان الخيال الثري والمليئة بالصور الفريدة المدهشة وبزخرف الكلمات، هذه القصائد التي تغنت بمآثر فرسان الصحراء كانت المصدر والنبع الذي نهل منه الرومانسيون بشغف.
لقد لعب واتسلاف جيفوسكي دوراً هاماً وخاصاً في إشهار الشرق، فقد أحب الشرق، وأصبحت شخصيته المثيرة نموذجاً لشخصية الفارس العربي الإبن الحر للصحراء وأصبح رمزاً للحرية والإقدام.
لقد اهتم جيفوسكي (1785-1831)بالاستشراق تأثراً بعمه يان بوتوتسكي. وكان أول مؤلف أدبي عرف اللغة العربية، وقد تعرف إلى الأدب العربي والفلكلور البدوي.
قضى شبابه في فيينا، حيث أسس ومول أول مجلة استشراقية في العالم “Fund” وذلك في أعوام(1809-1818).في الفترة الممتدة من عام 1817وحتى عام 1820مكث في سوريا وفي شبه الجزيرة العربية. ولقد سافر مرتين إلى بلدان الشرق الأوسط بغرض شراء الجياد العربية.
وهذا ما ولد في داخله الشرارة لكتابة مرلفهٍ”les chevaux orientaux Sur”وهو مخطوطة ما زالت موجودة حتى الآن في المكتبة الوطنية في وارسو. هذا العمل المؤلف من مجلدين يحتوي على تنوع كبير وغني بالنص المضمون . بالإضافة إلى الأجزاء المخصصة للخيول العربية،هناك معلومات اثنوغرافية وطبيعية وتاريخية. لقد كان جيفوسكي في علاقة حميمة مع العرب، ولقد حظي على احترامهم البالغ إذ أدهشهم كرمه ورجولته.وقد ألف جيفوسكي “ألحان عربية” وهي أغان عناصرها وموضوعاتها عربية ومنها:
“نشيد البدو الوهابيين الصباحي”،”صحراء نجد” وغيرها..
في عام 1820 عاد جيفوسكي إلى ممتلكاته في بودول، وقد أثارت طريقة حياته “الشرقية” وحكاياته عن الشرق الاهتمام الواسع في بلاده. في قصيدته “فارس”خلد آدم ميتسكيفيتش هذا “الأمير ذا الشعر الذهبي”، أما يوليوش سلافاتسكي فكتب مؤلفاً بعنوان “أنشودة لواتسلاف جيفوسكي”.
إن اهتمام آدم ميتسكيفيتش (1798-1855)بالشرق وكان له عدة أسباب.بوادر هذا الاهتمام ظهرت في أيام حياته في فيلنوس وفي بطرس بورغ.وقد أعطته إبداعات غوته وشيللروسكوت وبايرون النماذج المناسبة اللازمة كي يملاً كتاباته الشخصية بمؤثات الشرق.وكذلك كان لمعرفته بالمستشرقين البارزين مثل خوتشكو وسينكوفسكي وبالأذربيجاني ميرزا جعفر دوراً كبيراً في تقريبه إلى عالم الشرقز
وقد جذب انتباه ميتسكيفيتش شاعرين من الشعراء الكلاسيكيين العرب هما الشنفرى والمتنبي. الشنفرى من أشهر شعراء عصر ما قبل الإسلام، اشتهر بقصيدته “لامية العرب”التي ترجمها آدم ميتسكيفيتش عام 1828تحت عنوان “الشنفريات”،معتمداً على ترجمة المستشرق الفرنسي دي ساتسي 15 ومستفيداً من التفسير اللغوي لها الذي قام به المستشرق سنكوفسكي باللغة البولندية.
“شنفريات” ميتسكيفيتش هي أكثر من ترجمة فعلية وهي أقرب إلى تفسير حر غير مقيد بالنص الأصلي تصور الأجواء الفريدة الرائعة التي غطت سماء القصيدة البدوية القديمة.
ثاني الشعراء الذين شدوا انتباه ميتسكيفيتش إليهم هو المتنبي الممثل الطليعي للشعر ذي الاتجاه الكلاسيكي المجدد، فترجم واحدة من قصائده معتمداً على ترجمة دي لا غرينغ الفرنسية 17.تتكلم هذه القصيدة عن هروب المتنبي من مصر ورثائة مةت المقاتل الباسل أبي فاتك الذي لقي حتفه حينما عاد إلى مصر.
كما ذكرنا سابقاً فان “فارس”التي أهداها آدم ميتسكيفيتش إلى فاتسلاف جيفوسكي هي قصيدته الأكثر شهرة. فارس إنسان ذو شجاعة خارقة يستطيع أن يقهر كل من يقف في وجهه، لا يخشى شيئاً ولا يخاف أحداً. فارس ميتسكيفيتش أصبح مثال الإنسان والداعية وشكل الأساس الرومانسي الراهنة المتداولة. كلمة فارس، ومنذ ذلك الوقت، اقترنت بكلمة “شاعر”و”متمرد”و”وطني”وبمثلهم في الحرية غير المحدودة بقيود الاستبداد والقمع.في مرحلة هيمنة التيار الوضعي “positivism” على الأدب البولندي (بعد عام 1863وحتى عام 1890)ضعف الاهتمام بالاستشراق،واقتصرت موضوعاته على المجال الجغرافي وعلى السفر والرحلات إلى بلاد المشرق،وإننا نجد في هنريك سينكيفيتش (1846-1916)المثال على تلك الفترة.
زار هذا الكاتب مصر في بداية عام 1891ثم توقف في زنجبار،وبعد ذلك قام برحلة صيد في عمق الأراضي الإفريقية.إن الانطباعات التي تخلفت في ذاكرته بعد رحلته في أرجاء القارة السوداء كانت المادة التي زود بها رسائله التي كتبها عام 1891 بعنوان “رسائل من أفريقيا”. وبعد ذلك بسنتين كتب “في الصحراء وفي الأدغال”مستفيداً من ملاحظاته الشخصية وانطباعاته،مستغلاً معلوماته الجغرافية والتاريخية. في هذه الرواية نرى بوضوح تام الخلفية التاريخية التي تشير إلى ثورة المهدي في السودان ضد الاحتلال العسكري البريطاني عام 1881.
في مرحلة “بولندا الفتية”سادت الرومانسية الجديدة وهي واحدة من المصطلحات التي تحدد اتجاهات التجديد ما بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين،والتي كثيراً ما نعثر عليها في الأدب الألماني.في هذه الفترة نشطت الاهتمامات بالشرق وتلخصت في إشهار أعمال مختلفة من الأدب العربي عبر ترجمتها،أو تبدت في إبداعات منفردة معتمدة على موضوعات الشرق.
وهنا نرى انطوني لانغ (1861-1929)الشاعر والناقد والمترجم قد أوسع في مؤلفه “ديوان الشرق”،الصادر في وارسو عام 1921، مكاناً معتبراً كالمختارات من الإبداعات الأدبية الشرقية ومنها بالطبع الإبداعات العربية. ولقد استفاد من انطولوجيا الشعر العربي المثير للاهتمام، ومن ذلك ديوان “حماسة”لأبي تمام (المتوفي845)المترجم إلى اللاتينية عام 1828على يد فؤيتاغ،و”كتاب الأغاني””لأبي فرج الأصفهاني(المتوفي عام 967)الذي ترجمه برونوف (1888)وغويدي (1895-1900)اختار لانغ من هذه الكتب فصائد الشعراء العرب القدماء مثل:امرىء القيس،عنترة بن شداد، تأبط شرا،النابغة ألذ بياني ،كعب بن زهير؛وقد أخذ قصائد الخمريات نموذجاً له،وعلى هذا المنوال كتب قصيدة على شرف القهوة العربية السمراء بعنوان “أناشيد للشاربين” (الشعر،الجزء الثاني،1898).
في مجلده الشعري “في بستان الافتراق”(1912)يضع بولسلاف ليشميان (1878-1937)قصيدتين من وحي الأدب العربي. أولا هما قصيدة “سيدي نعمان”التي تكونت نتيجة لقراءته “أبف ليلة وليلة”.نرى في الأصل العربي “لقصة سيدي نعمان”أن الساحرة تحول زوجها إلى كلب،وبعدما ينفك السحر عن زوجها يقوم هذا الأخير بتحويل زوجته إلى فرس ويقتص منها إذ يعاقبها بالترويض الشاق كل يوم.وهنا نرى أن ليشمان يستعير من النص العربي عنصر الانتقام ضد الزوجة فيسحرها ويحولها إلى حصان أبيض ويأتي بمؤثر جديد وهو أن البطل مازال يجب الزوجة ويحيطها بالرعاية والحنان. إلا أنه تدريجياً يشعر بالكراهية نحوها وتزداد في نفسه رغبته بالانتقام منها فيبدأ “سيدي نعمان”بتعذيب الزوجة – الحصان.غرض ليشمان من ذلك كله أن الحب بإمكانه أن يتحول إلى كراهية.
القصيدة الثانية التي كتبها ليشميان هي “الرحلة المجهولة للسندباد البحري”،وهنا اسم سندباد يقوم بوظيفة إبراز الأعاجيب، وأما لقبه “البحري” فيشير إلى مؤثرات الرحل، ما عدا ذلك فإن ليشميان كتب عدة مؤلفات منها:”حكايات السمسم”(1912)،و”حكايات السندياد البحري” (1913)، التي يمكن القول فيها أنها ترجمة حرة لمغامرات “على بابا” و”السندباد البحري”،ولا شك أن الكاتب نجح في سبغها بطلاوة الشعر وملاحة الطرافة.
أما كورنل ماكوشينسكي (1884-1953)فاعتمد على ترجمة لوكاش سوكولوفسكي لكتاب “ألف ليلة وليلة”الذي نشر تحت عنوان “مشاجرات عربية”(1768)، وأعطى هذا العنوان لمجموعة أقاصيصه الصادرة عام 1913.
في إحدى تلك الأقاصيص “الرحلة الثامنة للسندباد البحري”، التي بدت كأنها تتمة للرحلة السابعة من الكتاب العربي، يقص السندباد، وهو تاجر غني من بغداد، على أصدقائه المحتفلين في بيته مغامراته التي عاشها في رحلته الثامنة، والتي من خلالها جلب معه أكبر كنز في حياته وهو زوجته المخلصة.كما في الرحلات السابقة ينجو السندباد من كارثة غرق السفينة،فترميه الأقدار إلى بلاد الملك بابو المجهولة، هذه البلاد التي خلت من النساء المخلصات. الملك الذي تزوج سبعمائة امرأة كان مقتنعاًأنه لا يمكن اييجاد زوجة مخلصة في مملكته. يعقد السندباد اتفاقاً مع الملك ملخصه أنه إذا وجد لنفسه زوجة مخلصة في هذا البلد فسيكون بإمكانه العودة إلى بغداد سالماً، وإن لم يفلح فسيواجه عقوبة الموت، والشرط الوحيد في ذلك ألا يتزوج أكثر من ثلاث مرات. وطبعاً كانت الزوجة الثالثة مخلصة. وحين عاد السندباد إلى وطنه أظهر زوجته أمام أصدقائه الذين سرعان ما اكتشفوا أنها ميتة،فقال واحد منهم :”لقد حنطتها أيها السندباد ،وبذلك ستعرف أنها لن تخونك ، ولكن لماذا غطيت وجهها بالحجاب؟”.
“أجاب:لأنه لا يمكن الوثوق بالنساء حتى بعد الموت”.
هذا عرض مختصر لتأثيرات الإبداعات الأدبية العربية في مؤلفات الشعراء والكتاب البولنديين التي مازالت مستمرة حتى القرن العشرين. الجدير بالانتباه هنا، أن الأدب العربي أساساً قد دخل إلى بولندا بطريقة غير مباشرة بوساطة أوروبة الغربية، وخاصة فرنسا وإيطاليا، وذلك نتيجة للعلاقات الثقافية النامية التي تربطنا بهذين البلدين، وكذلك نتيجة رجلات أبناء بولندة إلى الخارج، واهتمامات المبدعين منهم خاصة.لاشك أن القارىء المتمعن ، الباحث الممحص سيجد الكثير من الأمثلة على تأثير الأدب العربي في الأدب البولندي.
إن الأمثلة التي بحثناها آنفاً تمثل أكثر المظاهر الموثقة لهذه التأثيرات عبر العصور.أأأ
____________________
هوامش:
1-ايزوب:شخصية شبه خرافية.من المفترض أنه عاشفي القرن السادس قبل الميلاد في فريغا(آسية الصغرى).أعتبر مؤلفاً للحكايات، وخاصة الحكايات ذات الطابع الأخلاقي والساخر.
2-لقمان الحكيم الفيلسوف العربي من عصور قبل الإسلام،تقوم عنه الأساطير أنه مؤلف حكايات أخلاقية واعظة.
3-ابن المقفع:أول ناثر عربي عظيم من أصل فارسي. وضع بداية الأدب التعليمي الأدبي.اشتهر كمترجم من اللغة الفارسية المتوسطة (البهلوية).مات عام 757م.
4- I. Chrzanom – Warszaw 1974 , 248 , Ski Historia Litertury niepodeleglej Ski , ( تاريخ أدب بولندا المستقلة ) pot .
5- A. Galland , Mille et une nuils Countes arabes , Paris . ( مشاجرات ) Warszawa 17680 – 1769 , t 1 – 12 .
6- L. Sokolowski , A wantury arabs – ( عربية ) kie lub Tysiac nocy ijedna Wydanie drugie Warszawa 1772 – 1774 l Lowski , Turezyn wohazujacy .
7- L. Soko ( الرحالة التركي ) Warszawa 1789 , lowski , Turezyn wojazujaey .
8- L. Sokolowski , o ksiezniczce Nur An- Nahar ( Jaki podroze podjeta dla milosci عن الأميرة نور النهار Warszawa 1789 , dziewczat ) .
بواسطة admin • 01-دراسات • 0 • الوسوم : العدد الحادى عشر, بربارا ميخالاك