أغسطس 2 2010
قصيدة النثر …………………………دكتور محمد عبد المطلب
قصيدة النثر دكتور محمد عبد المطلب (1) لا شك في أن الحداثة – في حقيقتها – تمرد مستمر غير مرتبط بزمان أو مكان ، أو نوع أدبي لأن الحداثة الحقة ذات طابع متعال مفارق لكل هذه الأطر ولا شك أيضا في أن هذا التمرد لا يجد نفسه الا في سلسلة من المغامرات الحرة التي تتحدى التقاليد والقيود والأطر أو لنقل أنه لا يتحداها بل انه لا يعترف بها أصلا . ربما أن الشعر كان أكثر الأجناس الأبداعية ألتزاما بالتقاليد والقيود كانت مواجهته أولا ثم التمرد عليه ثانيا من أبرز ملامح الحداثة وقد وصلت المواجهة الى ذروتها في توليد جنس ابداعي محايد يجمع بين الشعر والنثر وتم الأصطلاح على تسميته (قصيدة النثر) وهي ترجمة للمصطلح الفرنسي :Poeme en prose والمصطلح يعتمد ثنائية بنائية تجمع بين خواص جنسين متقابلين هما (الشعر والنثر) وان رفض الحداثيون اعتماد هذا التقابل لأنهم كما قلنا يرفضون القيود والتقاليد المحفوظة وغير المحفوظة ورفض التقابل يعني أعتماد الوحدة وحدة الطرفين في أستحداث جنس طارئ فيه مجموع الجينات الوراثية لكل جنس على حدة لكن بعد اخضاع هذه الجينات لما يمكن أن نسميه (الهندسة الوراثية) التي تحقق ظهور هذا الجنس الجامع بين الموافقة والمخالفة ، موافقة كل جنس على حدة ثم مخالفتهما حال التوحد الطارئ وبهذا نكون في مواجهة شعر مغاير للشعر ومواجهة نثر مغاير للنثر . ولا نستطيع أن ندعي بأن هذه المواجهة جديدة تماما بل كان لها حضور سابق على مرحلة الحداثة تحت مصطلح ثنائي أيضا هو (الشعر المنثور) أو (النثر الشعري) لكن الحداثة آثرت مصطلح (قصيدة النثر) الذي وفد علينا من مجموع ما وفد من مجموع ظواهر الحداثة في الأبداع والنقد ويلاحظ أن المصطلح كان ظهوره في فرنسا مصاحبا لحركة التمرد الشعري عند بودلير ، وكلوديل ، وأرتو ، ورامبو الذي قدم آخر منجزاته في ظل المصطلح (موسم في الجحيم) والأشرافات . وليس من همنا هنا تقديم العمق التاريخي لأبداع قصيدة النثر حتى لا نعيد انتاج ما أنتجته سوزان برنار ومن تابعها من الدارسين في العربية وانما نقصد تقديم اضاءة سريعة تكفي للتحرك منها الى الواقع العربي عموما والواقع المصري على وجه الخصوص . (2) ان الأبداع العربي يتشكل في لحظة الحضور وفق معطيات تجاوز موروثه القديم والجديد لكن هذا الابداع يواجه شبكة معقدة من المصطلحات الوافدة من ابداع غير عربي فالتعامل بها كما هي في أصلها يعرض النص العربي لأمرين واما أن يلفظ النص هذه المصطلحات واما أن بتقبلها فيتحول الى مسخ مشوه لأن التعامل مع مثل هذه المصطلحات يحتاج الى تعريبها ولا يعني التعريب مجرد الترجمة وأنما يعني ربطها بالجذور التراثية واستحضار المصطلحات الموازية لها والتي يمكن أن تعطيها شرعية التعامل مع النص العربي . ومن هذا المنطلقث جاء اقترابنا من مصطلح قصيدة النثر وما يمكن أن يتضمنه من حقائق ابداعية لها حضور على نحو ما في الموروث العربي . وألحق أنه قد شغلني منذ فترة موقف العرب عندما جاءهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالوحي خلال معجزة لغوية ابداعية هي (القرآن) بنظمه المفارق لما أعتادته العرب فالذي أعتادته خمسة مستويات : الأولى ضم الحروف المبسوطة بعضها الى بعض لتحصل الكلمات الثلاث :الأسم والفعل والحرف . والثانية : تأليف هذه الكلمات بعضها الى بعض لتحصل الجمل المفيدة وهو النوع الذي يتداوله الناس جميعا في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم ويقال له المنثور من الكلام والثالثة : يضم بعض ذلك الى بعض ضما له مباد ومقاطع ومداخل ومخارج ويقال له المنظوم . والرابعة : أن يعتبر في آواخر الكلام مع ذلك تسجيع ويقال له المسجع . والخامسة : أن يجعل مع ذلك وزن ويقال له : الشعر والمنظوم اما محاورة ويقال له الخطابة واما مكاتبة ويقال له الأقسام (68) أذا كانت هذه هي المستويات الكلام عند العرب بخواصها الفارقة فلماذا أتهموا الرسول بأنه شاعر وأن ما جاء به شعر وقد أثار القرآن هذه القضية خمس مرات في قوله تعالى (ما علمناه بشعر * ما ينبغي له ) يس (69) ، (بل قالوا أصغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر ) الأنبياء (5) ( يقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون ) الصافات (36) (أم يقولون شاعر نتربص به ريب يمون) الطور (30) ( ما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ) الحاقة (41) ان تناول الخطاب القرآني للقضية على هذا النحو المتكرر يعني أنها كانت حاضرة حضورا حادا في هذا الواقع القديم فكيف أدعى العرب أن القرآن شعر ، وهم ليسوا من السذاجة التي تدفعهم الى تبني هذه الأستراتيجية في مواجهة الخطاب القرآني والشعر أظهر أن يشتبه عليهم حتى يحتاج الى أن ينفي عنه ( ) ليس هناك تفسير يكن قبوله في هذا السباق الا أنهم قد ادركوا على نحو من الأنحاء أنه من الممكن أن يتحمل الأداء النثري بعض خواص الشعرية
نخلص من المردود المعجمي إلي أن مصطلح ” قصيدة ” يتحقق بثلاث ركائز :
1- الفطنة والشعور .
2- الوعي والقصد .
3- التجويد في الأبنية السطحية (اللفظ) والأبنية العميقة ( المعني ) .
وإذا كانت الركيزة الأولي ترتد إلي المبدع وقدراته الداخلية ذهنياً وعقلياً ، فإن الركيزة الثانية تتوجه بكل هذه الطاق الداخلية لتستدعي في مواجهتها المتلقي ( المقصود) سواء أكان متلقياً خاصاً أم عاماً كما تستدعي العالم لكي تراه من خلال وعيها الكلي أو الجزئي .
والركيزة الثالثة تقدم النص المفارق للنصوص التلقائية أو لنقل إنها تقدم اللغة الجمالي المفارقة للغة التخاطب .
وإذا كان هذا المستخلص المعجمي فيما يتعلق بالطرف الأول من الثنائية (قصيدة) فإن الطرف الثاني النثر يكاد يكون مهملاً داخل المعاجم ربما لأن دلالته الاصطلاحية في غير حاجة إلي تحديد معرفي إذ يأتي النثر مقابلاً للنظم ولم يذكر ابن منظور إلا أن قولنا رجل نثر كثير الكلام ويقول الزمخشري رأيته يناثره الكلام إذا حاوره بكلام حسن (22) .
ويتدخل أبو حيان ليؤكد المخالفة والموافقة بين الطرفين: النظم أدل علي الطبيعة ، لأنالنظام من حيز التركيب والنثر أدل علي العقل لأن النثر من خير البساطة (23) وهذه المخالفة قابلة لدخول دائرة الموافقة لأن اجتماع الطبيعة والعقل ممكن وجائز أي إجتماع التركيب والبساطة أي تداخل الشعر والنثر في وحدة إبداعية .
لقد لاحظنا تعامل المعجم مع كل طرف من طرفي الثنائية علي حدة ، ولم يتعامل معهما حالة إضافة أحدهما للآخر ، لأنه لم يكن في الوعي القديم ما يحتاج إلي تسجيله في المعجم لكن من المؤكد أن ما قدمناه عن الحدود المعرفية لكل طرف يعطي المصطلح شرعية الحضور إلي الواقع الإبداعي والنقدي كمنتج طارئ ، خاصة إذا تذكرنا ما سبق أن عرضناه من آراء تراثية عن إمكانية تداخل الخواص الشعرية و النثرية في الإبداع القولي .
وهذا التداخل يقتضي – بالضرورة – أن يتخلي كل طرف عن بعض خواصه ليسمح للطرف الآخر بمقابلته في منطقة محايدة هي منقطة قصيدة النثر وهنا نكون بين الإلتزام وعدم الألتزام فمن طبيعة الإبداع الإنساني علي مر التاريخ – أن ينحاز إلي أكثر الأشكال التزاماً بالقانون والنظام ، لكن محاولة الإفلات – غالباً – ما تكون نوعاً من مغامرة الخلاص من قيود النظام وصرامته ، استعداداً للدخول في جديد لاينفصل عن القديم انفاصلاً كاملاً ، وينتمي إليه – ايضاً – أنتماء كاملاً بل هي مرحلة قلق وتوتر تحتاج إلي عملية تطبيع تجاوز مبررات القلق والتوتر التي تصاحب فترات التحول والتغيير ولا شك في أن بعض أشكال الإبداع مضطرة للتواطؤ مع النسق العام للواقع والنسق الخاص للإبداع ، وهذا التواطؤ يقودها إلي التحفظ إزاء أنماطسائدة كما يقودها إلي الدخول في مغامرات تجريبية منفلتة ، لكنها شرعية لأنها تعبر عن الواقع العالم للعالم ،والواقع الخاص للمبدع ولاشك في أن التحفظ يتحول تدريجياً إلي رفض للقوالب الجاهزة التي استهلكها الإبداع ووصل فيها إلي طريق مسدود ، أو علي الأقل إلي طريق ضيق لا يعطي مساحة كافية للفردية أن تمارس مغامرتها المشروعة لإنتاج ما يعبر عنها وهنا يعمل التجريب علي تفتيت الواقع ليعيد تركيبه – إبداعياً – علي نحو مغاير وقد يفقد التجريب سيطرته علي إدارته الإنتاجية أحياناً لكنه فقد مؤقت لابد أن يعود بعده إلي شئ من النظام الحر ، لا النظام المقيد .
في هذه الحدود القلقة قدم كثير من المبدعين من المبدعين إنتاجهم في إطار مصطلح قصيد النثر أمثال الماغرط وأنسي الحاج وأدونيس وسكون بولص ووديع سعادة لكن لا يمكن أن نعفي مجموعة المبدعين من الوقوع في عملية تناسخ مع النموذج الغربي الوافد ، وهذا الوافد قد واجه ظروفاً – لاشك – مغايرة للظروف الصاحبة في الواقع العربي ، وإذا أدعي هذا الجيل أو هذا الحلف الإبداعي أنه حلف المستقلبية فإن مستقبلية الواقع الغربي فالأولي مستقبلي التقدم المنفلت والثانية : مستقبلية الخروج من التخلف والانغلاق .
وأعتقد أن شيئاً من فوضوية قصيدة النثر قد أخذ في الاستقرار – الأستقرار المتحرك عندما تنبه إلي حضور نماذج إبداعية عربية يمكن أن تكون بديلاً موازياًُ للنموذج الغربي وأهمية هذا البديل أنه يجمع بين التراثية والمعاصرة ولا أشك لحظة في أن أصحاب قصيدة النثر قد بهرهم الخطاب الصوفي من التراث كما بهرهم الرافعي من الحديث واستوعبوا أبنتيهم اللغوية وطرقهم في إنتاج الدلالة لكنهم قدموا إبداعاً ينتمي إليهم وحدهم برعم بنوتهم للريحاني وجبران الرافعي وسواهم من أعلام النهضة .
(6)
لقد نظر الحداثيون إلي الإيقاع المحفوظ علي أنه بناء استهلك نفسه في تكرارية زمنية ومكانية لم تعد تشغل همهم الإبداعي لأن هذا الهم قد توجه إلي الحركة الفكرية وتسلطها للعالم والنسق الصياغي وكيفية إنتاجه للمعني وفي هذا وذاك فإن الإبداع يؤمن إيقاعاً مغايراً لذلك الإيقاع الموروث الذي يعتمد علي عنصري البدء والختام ، أما الإيقاع الحداثي فإنه لا يعرف إلا البدايات التي تسلم إلي غيرهما من بدايا توليس معني هذا أن قصيدة النثر تلغي الإيقاع نهائياً لكن معناه أن كل إبداع يختار إيقاعه الذي يناسبه ، والذي يرتضيه بحيث يكون هذا الإيقاع شديد الألتحام بالبيئة الدلالية والتركيبية لأن الفصل بينهما يؤدي – بالضرورة – إلي خلل في إنتاج الشعرية وهو ما يعني أن الإيقاع لا يمكن حصره في النظم التفعيلي لأنه قد يتنافر – أحياناً – مع البيئ التركيبية ، مما يدفع النص إلي الترهل الشديد أو الأنكماش الشديد ، وكل ذلك يزحمه بنتواءت صوتية دلالية تهدر جانباً من شعريته بل إنها قد تهدر لغويته ليست الرخص العروضية والضرورات إلا صورة من هذه النتواءت .
إن مساحة القول الشعري تسمح لنا بتجميع كم وافر من الظواهر الأفقية والرأسية ذات طبيعة تراكمية تولد نوعاً من الإيقاع الداخلي والخارجي الذي لايقل عن إيقاع التفاعيل العروضية إن لم نقلإنها تجاوزها أحياناً بل إن هذه الظواهر لها حضورها الدائم الذي لا يغيب وكل ما تحتاج إليه هو مجرد الإنصات إليها والتنبه لصوتيتها بينما الإيقاع التفعيلي يتلاشي تماماً داخل البيت الشعري ولا يكاد يتنبه له إلا من تخصص في دراسة العروض وحتي هذا المتخصص لا يكاد يستجمع عناصر الإيقاع التفعيلي إلا عندما يعمد إلي ذلك عمداًليس معني هذا إننا نريد الدخول في المفاضلة بين نظامين من الإيقاع لأن المفاضلة مرفوضة – من وجهة نظرنا- كأداة نقدية أو تحليلية لأننا نتحرك وراء الأنسب والأنسب هنا يرتبط بالظواهر الحاضرة بالفعل في القول الشعري عموماً ، ذلك أن الشعرية قد بلغت ردها وامتلكت أمرنفسها فلم تعد تقيد نفسها بقوانين سابقة التجهيز تعمل علي محاصرتها وفق إبداع كان له شروط إنتاجية مغايرة لشروط إنتاجنا الحاضر.
إن شعري الحداث لا تنظر إلي الوزن كهدف في ذاته وإنما تنظر إليه كأداة لإنتاج الايقاع أي أن الايقاع هو الخصيصة المستهدف ، والشعرية لها الحق لمشروع في أن تختار من الأدوات ما يحقق ها ذلك سواء أكان ذلك من التفاعيل العروضية أم سواها من الأدوات المولدة للإيقاع ، وهذه الأخيرة تتنوع بين أدوات إفرادية وأخري تركيبية وبين أدوات حرفية وأخري ، صرفية وبين أدوات بديعية وأخري نحوية وكلها يحتاج إلي صبر في المتابعة الكمية والكيفي لتحديد وظائفها الايقاعية وتدخلها لإنتاج الشعرية وصعبة هذه المتابعة أنها تتعامل مع المستوي الكتابي ، وهو مستوي صامت يكاد يغيب الحس الصوتي ، ومن ثم فإن المتابع يحتاج إلي نقل الكتابية إلي الشفاهية لتحديد ركائز الإيقاع ومدي انتظامها وتواترها ومدي إنتشارها افقياً ورأسياً وأعتقد أن كل ذلك يمثل المبدأ البنيوي لإيقاع الشعرية وهذا المبدأ يصطدم ببعض الآراء الرافضة لقصيدة النثر تأسيساً علي خلوها من الإيقاع الشعري إن مجموع هذه الظواهر الصوتية تعني أن الشعرية يجب ألا تحصر نفسها في قالب بعينه بل لها الحق الشرعي في التعامل مع الأنظمة الإيقاعية التي تناسبها وهي أنظمة تعتمد الصوتية اعتماداً مطلقاً وإذا كانت الصوتية التراثية قد أنحازت إلي التفعيلة العروضية فإن صوتية الحداثة قد وسعت نفوذها لتستوعب مجموعة الأبنية التعبيرية في النص الشعري عند انفراده بخواصه أو عند امتزاجه بالنثرية فالتكافؤ الصوتي أصبح البديل المشروع للتكافؤ العروضي ولاشك في أن القصور في الإيقاع سوف يدفع قصيدة النثر تلقائياً إلي منطقة النثر الخالص كما أن الإيغال في الإيقاع سوف يدفع بها إلي منطقة القصيدة ومن ثم فإن التوازن بين الإيقاع وعدم الإيقاع هو الخصيصة الأساسية في قصيدة النثر ولا نعني بالعدمية هذا الغياب التام للإيقاع وإنما نعني به عدم الانتظام وضياع الترجيع الصوتي التكراري أي أن قصيدة النثر في حاجة إلي نوع من الفوضي الإيقاعية لكنها فوضي جمالية – إن صح التعبير .
ويمكن أن تقدم هنا ما نقصده بالانتظام وعدم الأنتظام في خاصية واحدة يمكن أن تنسحب علي غيرها من الظواهر وهذه الخاصية تكاد تهيمن علي معظم إبداعات الحداثة وهي تتمثل في التعامل مع الحرف المعزول عن الدلالة بوصف هذا الحرف بنية صوتية مستقلة وبهذه الصفة يكون خالصاً للإيقاع إذا دخل منطقة الترجيع المتكرر ، ويخرج منها إذا غاب هذا الترجيع ، أو كان غير منتظم ولا شك في أن توظيف الحرف كبنية صوتية مغرق في التراثية من حيث استعان به أصحاب المقامات في تشكيلاتهم الصياغية مثل تردد حرف بعينه في كل دال من دوال المقامة أو تردد حروف لها خواص كتابية معينة مثل الحروف المعجمة والحروف المهملة .
وقد انتقلت الظاهرة إلي بعض شعراء الأندلس التي كانت بالنسبة لهم وعاً من المغامرة الصوتية الإضافية ذات الركائز اللغوية ولا تحب أن ننساق وراء بعض المقولات التي ربطت الظاهرة بمراحل الضعف في أدبنا العربي إذ أنها تكادتكون حاضرة في تاريخ الأدبية الشعرية وغير الشعرية حتي في أكثر مراحلها أزدهاراً وليس معني ذلك أننا ننحاز إليها أنحيازاً مطلقاً وإنما معناه أننا ننظر في البناء الشكلي وهل أفاد من الظاهرة والناتج الدلالي وهل انضاف الحداثيين مع الحروف تتوافق إلي حد كبير مع توجهاتهم العرفانية ، إذ إن كثيراً من هذه الحروف كانت محملة بكم وافر من الإشارات والرموز بل إنها مقام من مقامات التصوص . (24)
لقد أوغل بعض شعراء الحداثة التفعيليين في هذه الحرفية من هذا المنطلق بل إن بعضهم بني علي الحرف المفرد ديواناً بأكمله كما فعل حسن طلب في آية جيم وبعضهم أوغل في الحرفية لكن بقدر كمحمد أبو دومة في تباريح أوراد الجوي .
وقد اتجهت الصوتية الحرفية – في بعض منجزاتها – إلي ما يسمي حرف المد وما يسميه علماء الصوتيات الحركة الطويلة التي تحتاج في النطق بها إلي فتح مجري الهواء وتخليته من أي عائق حتي يخرج الصوت حراً طليقاً محدثاً أكبر مساحة صوتية وغواية الشعرية مع هذه الوظيفة الصوتية موغلة في التراثية لكن زادت هذه الغواية مع شعراء الحداثة ثم وصلت الغواية ذروتها مع أصحاب قصيدة النثر والنظر في ديوان شاعر كرفعت سلام وردة الفوضي الجميلة يؤكد هذه الحقيقة فمجموع دوال هذا الديوان ألفان وتسعمائة وستة دوال ، تتدخل الحركة الطويلة في ألف وتسعمائة وواحد وثلاثين دالاً بنسبة تردد تبلغ 66.5 % من جملة الدوال وهي نسبة مرتفعة تجاوز نسب الترددفي الخطاب المألوف إذ أن نسبة الحروف الصامتة تبلغ 52 % والصائتة تبلغ 48 % في هذا الخطاب .(25)
لكن الظاهرة الحرفي التي نريد متابعتها بين المفرد في عقد العلاقة التجاورية بين المفردات حيث يعتمد هذا التجاوز علي وجود حرف أو أكثر يتردد في الدالين المتجاورين أو في مجموعة الدوال المتجاورة وهذا التردد يحدث إيقاعاً صوتياً يحتاج إلي إنصات كامل للإحساس به .
وسوف نعرض هنا لمجموعة من النصوص المختلفة لنلاحظ وظيفة الحرف في إنتاج الصوتي ثم فاعليته في تقريب النص من منطقة الشعرية أو إبعاده عنها .
النص الأول : صفحة من أوراق شاب عاش منذ ألف عام لجمال الغيطاني . تتضمن صفحة مذكرات هذا الشاب 429 دالاً . الدوال التي ترتبط تجاورياً بأحد الحروف 185 دالاً النسبة 43 % تقريباً .
النص الثاني : قصيدة حوار مع الصمت للشاعر محمد ابراهيم أو بنسة من ديوناه ورد الفصول الأخيرة والقصيدة من شعر التفعيلة تضم القصيدة 231 دالاً . تتدخل العلاقة الحرفية في 101 دال النسبة 44% تقريباً .
النص الثالث : مقدمة الدكتور بطرس غالي لكتابه طريق مصر إلي القدس دوال هذه المقدمة 469 دالاً تتدخل العلاق الحرفية في 210 دالاً النسبة 45% تقريباً .
النص الرابع : الرسالة الأولي من رسائل الأحزان لمصطفي صادق الرافعي عدد الدوال 1760 دالاً عدد الدوال المتجاور حرفياً 904 دوال النسبة 51 % .
النص الخامس : مقدمة الدكتور عبدالقادر القط لكتاب مصطفي صادق الرافعي مجموع الدوال 966 دالاً الدوال المتجاورة بالحرف 490 دالاً النسبة 51% تقريباً .
النص السادس : ديوان أحمد الشهاوي كتاب الموت وهو من قصيدة النثر عدد الدوال3091 دالاً الدوال المتجاورة بالحرف 1868 دالاً النسبة 60 % تقريباً .
يلاحظ أن النص الأول من الأعمال القصصية التي تعتمد التوصيل بالدرجة الأولي كما أنه يحكي ذكريات بعينها حسب وقوعها أي أن التأنق الصياغي غير مطلوب في مثل هذا النص ، ولذلك هبطت نسبة الدوال المتجاورة عن طريق الحرف إلي أقل من المتوسط .
أما النص الثاني فهو من قصيدة التفعيلة أي إن إيقاعيته حاضرة فيه ولذا لم يكن في حاجة كبيرة إلي زيادة حدة الإيقاع عن طريق الظواهر الصوتية .
ويكاد النص الثالث للدكتور بطرس غالي يكون خارج منطقة الأدبية لكن المؤلف قاد مقدمته إلي هذه المنطقة بوصفها مدخلاً لكتابه التسجيلي وبوصفها المؤشر الأول علي صياغة لغته صياغة فنية ومن ثم أرتفعت النسبة لكنها لم تصل إلي المتوسط .
أما نص الرافعي فهو من النصوص التي تنتمي إلي الشعر المنثور لكن أصحاب ها البناء الصياغي كانوا يؤمنون بأن ما يكتبونه نثر أولاً وآخراً ولذا ظل النص في منطقة محايدة بين الشعر والنثر فلم يجاوز المتوسط إلا بنسبة 1 % فقط .
وما لاحظناه علي الرافعي يمكن أن نلاحظه علي مقدمة الدكتور عبدالقادر القط فلا شك في أن تماسا صياغياً قد حدث بينهما فتقاربت النسبة عندهما بل تكاد تكون واحدة .
ثم يأتي النص الأخير لأحمد الشهاوي وهو من قصيدة النثر ويحكم الانتماء ارتفعت النسبة إلي أقصي معدلاتها مما يعني أن هذا الجنس الأدبي دائم البحث عن الظواهر الصوتية التي تحقق له ما فقده بغياب التفعيلة .
وليس معني تردد النسب بين الانخفاض والارتفاع أن ما نقدمه قانون لزومي بل هو ما زال فرضاً يحتاج إلي متابع ثم متابعة سواه من الظواهر الصوتية التي تعمل عل ينقل النص من النثرية الخالصة إلي منطقة متوازية بين النثرية والشعرية .
ومن الواضح أن الظاهر التي تابعناها في بعض النصوص تجمع بين الانتظام وعدم الانتظام كما سبق أن أشرنا فالانتظام يتمثل في تجاور مجموعة من الدوال بحرف أو أكثر وعدم الانتظام يتمثل في حضور دوال أخري تتجاوز تلقائياً دون اتكاء علي هذا الرابط الحرفي كما أن الانتظام وعدمه يتمثل – ايضاً – في امتداد العلاقة التجاورية بالحرف في أوسع مساحة صياغية متمكنة ، قد تصل إلي ثمانية دوال وقد تنكمش المساحة لتستوعب دالين فقط وهذا الانكماش هو السائد في قصيد النثر .
ويمكن متابعة هذا الامتداد في مثل قول إدوار الخراط بيداء معشوشية يبابها باهر أبيض أصهب إطباق متراكب .
ابتسام متبئس
بهرج شاحب
ابتلاء بالمباهج
بركان بارد
التباس القلب بغياهب بدرية
أيبدأ الخصب في أعقاب البوار ؟(26)
ثم نتابع الانكماش في مثل قول محمد آدم : عواياتك ثقيلة علي أما عزلتك فشمسها قاسية وها هو الزمن ينام .
هادئاً في حديقتك (27 ) .
إن معني الانتظام وعدم الانتظام أن كل نص يختار لنفسه الإيقاع الذي يناسبه والذي يحقق له قدراً من شعريته أو نثريته فينجزه علي مستوياته المتعددة داخلياً وخارجياً .
(7)
إن قصيدة النثر بوصفها نصاً قد تخلت عن كثير من أناقة الشعرية الكلاسيكية والتفعيلية واختارت لها أناقة خاصة بها ، تعمل خلالها علي تأكيد خصوصتها من ناحية وشرعيتها من ناحية أخري ومن ثم لم يكن الصفاء اللغوي من بين همومها وشواغلها وأصبحت التداولي بديلاً لهذا الصفاء فعن طريقها تقترب من الواقع حتي تلتحم به ، سواء في ذلك الواقع الخاص أو الواقع العام وهي في هذا الاقتراب تسعي لرفع الحياتي إلي أفق المتعالي جمالياً وقد تستبقيه في منطقته الحياتية مع إدخاله السياق الذي يحفظ له بعده الجمال يوفي هذا وذاك لا يكاد المتلقي يدرك هذه التداولية الحياتية وإنما يدرك أنه في مواجهة إبداع من طراز خاص يجمع بين التداولي والصافي علي صعيد واحد .
وخلال هذه التداولية تقترب قصيدة النثر من القبيح لتؤسس به جمالية غضافية فيها الحيادية التي لاحظانها مراراً بين الشعر والنثر وبين النظام وعدم النظام وبين التداولي والصافي لاشك في أن اقترابها من هذا القبيح غير منقطع عن التراث لكن الحداثيين لم يعودوا يقرءون التراث ، وإنما هم يحاورونه في ندية تبلغ مرحلة التحدي أحياناً فمنذ أن قدم امرؤ القيس بعر الآرام كلوحة طللية في قوله : تري بعر الآرام في عرصاتها .
وقيعانها كأنه حب فلفل ومنذ أن قدم ذيل فرسه الذي يغطي فرجها كجانب من لوحة الفرس في قوله :
لها ذيل مثل ذيل العروس تسد به فرجها من دبر
منذ قدم امرؤ القيس هذه المناطق القبيحة التي ارتفع بها إلي مستوي الشعرية و الجمالية والشعراء يقتربون من هذا القبيح ليوظفوه في إنتاج شعريتهم إلي أن كانت مرحلة الحداثة فاستفاض هذا الاقتراب وتحول إلي مقاربة تتسم بالمباشرة حيناً وبالتلويح أحياناً فلم يكن شعراء قصيدة النثر إلا أبناء أوفياء لمورثهم الذي حاوروه بوعي وفهم .
يقول حلمي سالم :
حينما تفزع المرأة الوحيدة من نومها في السادسة صباحاً لن أكون أنا الطارق سيكون الزبال (28) ..
في هذه الدفقة الموجزة ينزل النص إلي الحياتي ليستدعيه إلي منطقة الشعرية ثم يواصل نزوله إلي منطقة التداولي القبيح في السطر الأخير مع إحداث عملية تبادل في المستوي العميق حيث يحتل الزبال منطقة الذات ليصعد إلي رتبة العشق بفاعلية الجمع فكلا الطرفين جامع بقايا أما الطرف الأول فهو جامع لبقايا امرأة مفزعة من نومها ،وأما الآخر فهو جامع لبقايا الممارسات الحياتية .
إن الزبال لم يحضرفي سياق جمع القمامة وهو السياق اللازم له ، وإنما حضر في سياق شعري سياق العلاقة بين رجل وامرأة ، أمرأة تتوهم عاشقها يذوب في الليل تحت شرفتها بينما يتأهب لمفاجأتها في صور زبال يلم مخلفات ليلها العابث وهكذا تمكن الإبداع من السمو بالتداولي القبيح أو المبتذل إلي أفق الشعرية دون أن يجرح اللغة .
إن التخلي عن صفاء اللغ ونموذجيتها – عند أصحاب قصيدة النثر – قد صاحبه نوع من هدم المكونات الصياغية لحساب الجمالية ،والجمالي هنامقصود بها وضع العوائق أمام المتلقي حتي يصبح وصوله إلي المعني نوعاً من المجاهدة الذهنية و النفسية لأن مثل هذه الصياغة تعتمد المراوغة ولا تفصح عن نواتجها إلا بقدر ومن ثم يتدخل التأويل لمساعدة الصياغة علي الإفصاح يقول أمجد ناصر البرد يطوينا من الأعماق نرتجف لأن النمش الذي ترميننا به يهطل علي الجراح (29) .
نلاحظ هنا أن الدال المركزي (البرد) يفقد فاعليته الوضعية التي لا تتسلط إلا علي الظواهر ثم يمتلئ بدلالة طارئة تسمح له بتجاوزها الظاهر إلي العمق النفسي ومع بداية السطر الثاني يعود الدال إلي الامتلاءبدلالته الأولي بتأثير الفعل نرتجف ومع هذه العودة ينكسر النسق انكساراً حاداً لانقطاع العلاقة تماماً بين البرد والنمش فالعلة لا تتوافق مع المعلو علي أي نحو من الأنحاء وهنا يتدخل المستوي العميق ليفرغ دال النمش من معناه ليشغله بدلالة (المطر) بتأثير فعل الهطول لكن النسق يعود للانكسار عندما يتسلط الهطول علي الجراح فالدفقة تعتمد في إنتاج المعني علي لكسر النسقي الذي يحيل الصياغة إلي مجموعة من العلاقات الممزقة ويدفع المعني إلي دائرة المراوغة الاحتمالية .
إن هدم التراكيب صاحبة العناية بالدال المفرد بوصفه عالماً قائماً بذاته وفي قدرته أن يقوم بالمهام التي تؤديها التراكيب نتيجة لشحنه بكثير من الإسقاطات والرموز ، وهو ما يتوافق إلي حد كبير مع طبيعة قصيدة النثر التي تدخل منطقة الانكماش الشديد كما يمكن أن تدخل منطقة التمدد الواسع وهي في المنطقة الأولي تكتفي بالركائز الرئيسية بعيداُ عن الترهل والزوائد وفي المنطقة الثانية تستعين بأدوات إضافية من فن الرواية والمسرحية ونعني بذلك السرد والحوار بعيداً عن الغنائية الذاتية التي تدفع النص إلي التهويم في إطار من العاطفة المنسابة .
ويمكن ملاحظة هذا الانكماش الشديد والتركيز البالغ في مثل قول سيف الرحبي في نص بعنوان “لعب ” :
لم نكن جبناء ولا أبطالاً
كنا أنفسنا
نلعب النرد مع النيازك
وأحياناً نصغي لنقيق الضفدع في ليل تحتضر بقاياه (30)
فالشعرية هنا تمتص النثرية بعيداً عن الغنائية ومن ثم اكتفت بهذه المساحة الصياغية المحدودة التي تعتمد المفارقة أداة إنتاج وجود خاص قائم علي الحياد التعبيري والعاطفي .
إن نفور قصيدة النثر من الغنائية قد خلصها نهائياً من مفهوم التجربة ببعدها الرومانسي وانحاز بها إلي منطقة المواقف والأحوال والمقامات خلال لغ مصنعة تنتمي إلي اللغ ولا تنتمي إليها تنتمي إلي الموروث ولا تنتمي إليه ومن هنا كانت الغرابة وكان الرفض الذي أخذ في الانحسار وحتماً ستكون هناك مرحلة للتقبل ثم القبول بعد أن يعتاد العقل والأذن علي هذا الإبداع الطارئ .
الهوامش :
1- الإتقان في علوم القرآن–السيوطي–مطبعة حجازي بالقاهرة سنة1941،2 /203.
2- البرهان في علوم القرآن – الزركشي – تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم – دار المعرفة : 2 / 114 .
3- البرهان في وجوه البيان – ابن وهب – تحقيق د. حنفي شرف – مكتبة الشباب سنة : 1966 : 130 .
4- إعجاز القرآن – الباقلاني – تحقيق السيد أحمد صقر- دار المعارف بمصر سنة 1963 : 56 .
5- السابق : 51 .
6- جمهرة أشعار العرب – أبو زيد القرشي – دار المسيرة – بيروت سنة 1978 : 12 .
7- الصاحبي – ابن فارس – تحقيق السيد أحمد صقر – عيسي البابي الحلبي سنة 1977 : 467 .
8- مفتاح العلوم – السكاكي – دار الكتب العلمية : 217 : 218 .
9- إعجاز القرآن : 63 .
10- عيار الشعر – إبن طباطبا – تحقيق عباس عبد الستار – دار الكتب العلمية – بيروت : 81 .
11- السابق : 11.
12- المقايسات – أبو حيان التوحيدي حسن السندوبي – دار سعاد الصباح سنة 1992 : 245 .
13- الإمتاع والمؤانسة – أبو حيان – حققه أحمد أمين وأحمد الزين – مكتبة الحياة : 2/ 135
14- السابق : 2 / 145 .
15- الإتقان – السيوطي – مطبعة حجازي بالقاهرة سنة 1941 : 2 / 147.
16- الخصائص – ابن جني – تحقيق علي النجار – عالم الكتب سنة 1983 : 2/ 263 ، 264
17- انظر : العمدة – ابن رشيق – أمين هندية بمصر سنة 1925 :1/118 .
18- النظرات – مصطفي لطفي المنفلوطي – مطبعة المعارف بمصر سنة 1912 : 108 .
19- انظر قضايا الشعر الحديث – جهاز فاضل – دار الشروق – سنة 1984 :58 .
20- لسان العرب – ابن منظور – طبعة دار المعارف – مادة قصد .
21- القاموس المحيط – الفيرز ابادي – المطبعة المصرية سنة 1933 : مادة شعر .
22- انظر : أساس البلاغة – الزمخشري – كتاب الشعب سنة 1960 : مادة نثر .
23- المقابسات : 245 .
24- انظر : تقابلات الحداثة في شعر السبعينيات – د. محمد عبدالمطلب – الهيئة العامة لقصور الثقافة سنة 1995 : 75 ، 76 .
25- انظر : هكذا تكلم النص – د. محمد عبدالمطلب – الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1997 : 243 ، 244 .
26- طغيان سطوة الطوايا – إدوار الخراط – الهيئة العامة لقصور الثقافة سنة 1996: 9 .
27- هكذا عن حقيقة الكائن وعزلته أيضاً – محمد آدم : 170 .
28- سراب التريكو – حلمي سالم – شرقيات سنة 1995 : 167 .
29- أثر العابر – أمجد ناصر – شرقيات سنة 1995 .
30- رجل من الربع الخالي – سيف الرحبي – دار الجديد – بيروت سنة 193 : 125 .
أغسطس 2 2010
أنتقال النظريات السردية………………………… د/ سعيد يقطين
أنتقال النظريات السردية
( المشكلات والعوائق )
تقديم :
تنتقل الأفكار واللغات والقيم من مجال إلي آخر ومن فضاء إلي غيره تماماً كما ينتقل الأشخاص ، وتنتقل الأشياء لغايات ومقاصد محددة ، تتغير وسائل الانتقال وغاياته بتغير الأحوال وتطور الأزمنة لكن الانتقال يظل قائماً دائماً لحاجات يثبتها واقع أن العالم الشاسع الذي نتحرك فيه يفرض علينا بصورة أو بأخري أن نقتحمه بشتي الوسائل وباختراع مختلف الوسائط ونحن بذلك نهدف إلي التعرف علي ما يجري فيه وعلي ما يتحقق خارج العالم الخاص الذي ننتمي إليه لنستطيع العيش وفق ما يفرضه واقع التحولات التي تطرأ عليه .
تطورت في العصر الحديث وسائل الانتقال بصورة جذرية وصار بالإمكان التعرف علي ما يجري في العالم وتحقيق فعل الانتقال بأقصي السرعة التي لم يكن من الممكن التفكير فيها إلي عهد قريب جداً وغداً من السهل علي أي مكان أن ينتقل وقتما شاء من مكان إلي آخر بل أن ينتقل وهو لا يبرح مكانه في مختلف اتجاهات العالم ولما كان انتقال الأفكار والنظريات يعم بواسطة الكتاب أو من خلال الترجمة أو تحمل أشخاص متاعب السفر والهجرة إلي مواطن تلك الأفكار أو النظريات للتعرف عليها هناك ونقلها إلي الثقافة التي ينتمون إليها ( مثل ما فعله أو الريحان البيروني ( 440 هـ ) قديماً مع الثقافة الهندية .
فإن العصر الحديث أوجد وسائط عديدة وجديدة للتواصل وانتقال الأفكار وتبادلها بين الأمم والشعوب والأفراد بصورة لم تتحق في أي عصر من العصور الغابرة .
نود في هذه الدراسة الوقوف عند النظريات السردية الغربية ونبحث في كيفية انتقالها إلي الوعي النقدي العربي والدور الذي لعبته في تطوير الممارسة النقدية العربية والتساؤل عن المشكلات والعوائق التي تحول دون استثمار هذا الانتقال بصورة تضمن تحقيق الغايات والمقاصد الكامنة وراء هذا الفعل وضروراته .
النقل والانتقال :
– نريد في البداية أن نميز بين النقل والانتقال لصلتهما معاً بالموضوع الذي نبحث فيه وسيسمح لنا هذا التمييز بالنظر إلي طبيعة كل منهما وما يحتويه من دلالات تمكننا من تطوير النظر إلي كل منهما بصورة إيجابية .
إنهما معاًَ من جذر واحد : ن ق ل . وبدون التوقف عند الاختلاف الصرفي والدلالي المعجمي للمصدرين لغوياً نؤكد أن الانتقال بما يتضمنه من صيغة تقوم علي الافتعال ينهض علي أساس ضرورة عامة وطبيعة كلية ومتعالية الفعل ذاته إنه فعل إنساني عام يكفي تحقق وسائل إنجازه وشروطه البسيطة ليغدو قابلاً للتنفيذ .
أما النقل فهو ضرورة خاصة لا تكفي الرغبة العامة أو تحقق أحد شروطه ليصبح واقعاً لابد في النقل من وجوب الوعي به والإحساس بالحاجة إليه لدي فئة أو جماعة محددة ،وعندما يتدخل هذا الوعي يصبح نقل ما عند الآخر يرتهن إلي وجوب تحقيق غايات ومقاصد خاصة لدي من يمارس عملية النقل هذه أو يدعو إليها .
– تكمن وراء عملية الانتقال قيود مادية صرفة وما أن يتم تجاوزها حتي تصبح عملية الانتقال ممكنة وواردة وبصدد عملية النقل ، توجدحواجز “ثقافية” أو “إرادية” يصعب تجاوزها حتي وإن توافرت أحياناً الشروط المادية لتحقيقها إن عملية الانتقال تتم عادة عند توافر اتفاقات بين البلدان لتبادل الأشخاص والأشياء وضمن هذا يمكن أن ندخل الكتاب باعتباره يمثل أو يحمل أفكاراً أو نظريات أو قيماً ..
لكنع ملية النقل لا تتحقق فقط بتوافر أسباب الانتقال إذ لابد – والحالة هذه-من اقتناع من يمارس عملية النقل بأهمية ما ينقل من نظرية أو تجاهات فكرية أو غيرها وفي حال النقل هنا يبرز عامل الوعي بأهمية النقل بصفته ينم عن اختيار ودوره في تطوير ما يشتغل به أو يري أن لا مناص من الاستفادة منه أو تحويله إلي فضائه الثقافي .
يمكن أن تتداخل عملية النقل والانتقال في بعض الأحيان ويصبحان متواشجين ومتكاملين إذ لولا تحقق الانتقال لما أمكن أن يكون النقل لأن الأول يتيح إمكان حضور الشئ ويسمح الثاني بتحويل بعض ما ينتقل إلي موضوع للنقل فإذا كان بلد ما لا يتيح فرصة لانتقال أو دخول الكتاب الأجنبي تحت أي ذريعة كانت فمن غير المعقول تصور أن يتم النقل في غياب أي تواصل مع ما يحتمل أن يكون مجال الانتقال .
وفي وضع آخر يمكن أن يبدأ النقل من خلال أشخاص أتيحت لهم فرصة العيش والتعرف علي الآخر وعلي ثقافته في عين المكان فيتشبعون بالأفكار ويقومون بحملها إلي بلدانهم ونقلها والترويج لها والدفاع عنها .
ويجدون من ينتصر لهم ، ويقتنع بجدوي ما نقلوا ، فيحدث بعد ذلك الانتقال وفي تاريخ علاقتنا الحديثة مع الغرب ، يمكن تبين الوجهين معاً لأنتقال النظريات والأفكار بعد أن ينقلها من قبل اشخاص تشبعوا بها وساهموا في انتقالها مثل ما نجد مع النظريات النقدية في مطلع القرن (طه حسين ) أو مع تيارات مثل الوجودية والماركسية في مرحلة والبنيوية . التكوينية والنبيوية بمختلف ما ينضوي تحتها من اتجاهات في مرحلة أخري .
– نريد بهذا التمييز أن نشخص الفرق بين العمليتين لتتاح لنا قراءة دقيقة لما ستتوقف عنده من خلال إحداهما فالانتقال مبدأ عام ، وهو قائم بذاته بناء علي ما تقتضيه مصلحة التواصل بين الناس والأمم ، فانتقال التكنولوجيا وكل ما يتولد عنها من إنجازات وفي مختلف المجالات التي تهم الناس لا يمكنها إلا أن تتم وفق شروط خاصة بين مصدرها ومستوردها ، أما النقل فهو خاص لأنه يقوم علي اختيار الناقل ومتي نجح النقل تحقق الانتقال ، وصار ما ينقل موضوعاً عاماً للتواصل والتبادل ولهذا نجد النقل يتصل بصورة ما بالأفكار والقيم والنظريات .
النظرية : التشكل والتطور :
سنتخذ من نظريات السرد مجالاً للبحث لنعاين حركة تشكلها وانتقالها خارج الفضاءات التي تكونت فيها ووصولها إلي العالم العربي في ضوء المفهومين اللذين حاولنا الحديث عنهما أعلاه وقبل ذلك لابد من الإشارة إلي أنه يجدر بنا التوقف قليلاً عند الشروط والمميزات التي تتوفر عليها أي نظرية بهدف ملامسة مدي تطابقها مع الوضع الذي يمكن أن توجد فيه في حال انتقالها وما يمكن أن ينجم عن ذلك من تغيرات وتبدلات في أوضاع نقلها .
تنتظم أي نظرية كيفما كان نوعها في نطاق العناصرالتالية :
2- السياق : لا يمكن أن توجد أي نظرية خارج سياق عام يحدد الشروط الملائمة لتشكلها ويعطيها إمكان التطور بناء علي توافر .
3- الانتظام الذاتي : من بين أهم المستلزمات المناسبة ، نجد الانتظام الذاتي ، والمراد : البعد النسقي الذي يحدد لها مجموعة من القواعد والمبادئ التي تتأطر في نطاقها مجسدة بذلك خصوصيتها والإشكالات المركزية التي تنطلق منها وتسعي إلي تدقيقها ووضع حدودها ورسم معالم آفاقها .
4- التفاعل والدينامية :والمقصود بذلك أن السياق الذي تنتظيم في نطاقه وانتظامها الذاتي يجعلانها تدخل في علاقات تشابه واختلاف مع علوم أو نظريات أخري أو علاقات حوار أو صراع مع النظريات القريبة أو البعيدة منها في السياق نفسه ووفق آليات الانتظام الذاتي نفسها ويسمح لها هذا بتحقيق التفاعل مع غيرها بشتي الصور الممكنة ووفق منظور دينامي يتيح لها إمكانات التطور أو المساهمة في بلورة نظريات جديدة متفرعة أو تمد نظريات أخري باحتمالات جديدة ومنفتحة.
5- تشكل النظريات السردية : نود الوقوف هنا علي نظريتين للسرد ظهرتا معا في سياق واحد ولكن لكل منهما محدداتها الخاصة وحدودها المميزة هاتان النظريتان هما : السرديات ( Narratologie ) والسيميوطيقا الحكائم
( Semiotique narrative ) ظهرت النظريتان معاً في المرحلة البنيوي
( الستينيات ) واللسانية تحتل مكانة طليعية في مضمار البحث .
والتحليل لذلك سنجدهما معاً تتشكلان في نطاق الهاجس العلمي ويسعي كل منهما تبعاً لذلك في أن يتقدم باعتباره علماً خاصاً بالسرد أو الحكي تمييزاً لهما عن مختلف الاتجاهات النقدية في تحليل الرواية أو القصة السابقة بوالأخص البنيوية التكوينية والتحليل النفسي أو الاتجاهات المادية أو الوجودية .
إن هاتين النظريتين تشكلتا في سياق التحولات التي عرفتها الثقافة الغربية ، وخصوصاً في فرنسا خلال حقبة الستينيات التي حققت فيها اللسانيات خطوة مهمة في مجال تطورها منذ الثورة التي دشنت مع أعمال دو سوسير في بداية القرن إن العنوان العام لهذه الحقبة هو ما تم تحت اسم الدنيوية .
داخل سياق البنيوية حاولت السرديات والسيميوطيقا الحكائية أن تخلق كل منهما لنفسها انتظاماتها الخاصة ، وتضبط مبادئها ومقاصدها المتميزة بناء علي الخلفي التي تستند إليها كل منهما هكذا نجد السرديات وهي تتأسس علي قاعدة بلاغية وجمالية تعمل جاهدة علي الكشف علي أدبية السرد ، في حين ذهبت السيميوطيقا الحكائية ،وهي تنطلق من المنطق والرياضيات والعلوم الإنسانية إلي تركيز اهتماماتها علي المعني وضبط آليات اشتغاله ومواطن تحققه .
وإذا كان السياق يحدد نقط الالتقاء بين هذين السرديين من خلال تركيزهما كل بحسب انتظامه الذاتي علي الموضوع المحلل في ذاته بعيداً عن أي عوامل خارجية عنه فإن التطور الذي حققه كل منهما في صيروته جعلهما قابلين للتفاعل بينهما وبين مختلف العلوم الأخري المجاورة والبعيدة ويبدو ذلك جلياً من خلال محاولة السرديات الاستفادة منذ أواسط الثمانينات من نظريات التلفي ونظريات أو لسانيات النص والتعامل مع علوم مثل السوسيولوجيا وعلم النفس . وتحقق الشئ نفسه مع السيميوطيقا الحكائية سواء من خلال استلهامهاوتفاعلها مع علوم إنسانية أخري غير الأنثروبولوجيا التي استفادت منها خلال فترة تشكلها أو خلال توسيع مجال اهتمامها ، بانتقالها إلي البحث في الصورة والحركة سواها من أنواع العلامات غير اللفظية وما يزال كل منهما مرشحاً للتفاعل مع التطورات والمستجدات في مضمار ما يتحقق علي صعيد الثورة العلمية التي تلعب المعلوميات ووسائط الاتصال المتعددة دورها الرائد .
فكيف أمكن لنظريات السرد هأته أن تتشكل وتتطور وتنفتح علي آفاق أرحب في مجال الدرس الأدبي ؟
لا يمكن الجواب عن هذا السؤال بالصورة الملائمة إلا بوضعه في نطاق المفهومين اللذين جعلناهما مدار هذا البحث إن ” الانتقال ” أتاح لها إمكانات مهمة للاعتناء والتبلور ، كما أن النقل سمح لها إلي حد ما أن تخلق وضعاً جديداُ في مواطن خارج مجالها الثقافي وتتوفر علي مقومات للتطوير إذا ما تم تجاوز العوائق والممشكلات التي تحول دون ذلك .
-انتقال النظريات السردية :
سنحاول الإجابة عن السؤال أعلاه من خلال محورين يدور أولهما حول الانتقال لتحديد طبيعته وكيفية حصوله وما تولد من خلال ممارسته ودوره في تخصيب النظريات وتطوريها أما المحور الثاني فنخصصه لعملية والنقل حيث يمكن الوقوف علي دوره في تجديد النظر وتحريف مساره وما ينجم عن ذلك من مشكلات وعوائق .
الأصول : سبقت الإشارة إلي أن نظريات السرد تشكلت خلال الحقبة البنيوية في فرنسا (الستينيات ) وكان العنوان الأساس لهذه الحقبة يتمثل في الثورة التي حققتها اللسانيات بوجه عام ولقد غدا الآن من الواضح جداً أن الأب الروحي للسانيات هو فردنان دو سوسير (1915) فكيف – والحالة هذه نتحدث عن الثورة اللسانية في الستينيات بالرغم من أن الجهود الأساسية في المضمار نفسه تشكلت في بداية هذا القرن ؟
ويمكن تأكيد الشي نفسه فيما يتصل بالدرس الأدبي فالحركة البنيوية تري أن جذورها تكمن بصورة أو بأخري في حركة الشكلانيين الروس بروسيا (1916) وفي مضمار السيميوطيقا يرجع بارت أيضاً ظهورها إلي الدور الذي اضطلع به شارل ساندرس بورس (1914) فما الذي جعل الأصول تتبلور في حقبة ( بداية القرن خلال العقدين الأول والثاني ) وفي فضاء ( روسيا – سويسرا – أمريكا) لكن التشكل لا يتم إلا في باريس الستينيات ؟
هنا سيظهر لنا بجلاء كيف تنتقل النظريات والعلوم بوجه عام كلما توافرت الأسباب المناسبة لذلك قد عمل الشكلانيون الروس علي تجديد النظر إلي الأدب واللسان ودعوا إلي دراسة كل منهما دراسة علمية لكن دعوتهم ستعارض بشكل صارخ في نظام اجتماعي وثقافي له أيديولوجية جديدة ومغايرة لما يدعون إليه (النظام الاشتراكي ) لذلك سيعانون من الاضطهاد والقمع ويكون هذا الوضع مناسباً لانحباس دعوتهم وانكماشها علي نفسها وانعدام توافر الظروف الملائمة لانتقالها وتداولها لأن الدولة كانت معنية بانتقال ايديولوجيتها الاشتراكية وترويجها في الداخل والخارج وفعلاً تحقق لها ذلك في سياق سمخ لانتشارها واستعمالها .
وسوف لا يتم التعريف بأعمال الشكلانيين الروس وياختين ويروب إلا في أواخر الخمسينيات وبداية التسينيات عن طريق تجرمة أعمالهم إلي الفرنسية والإنجليزية تخصيصاً كما أن انتقال أحد أعمدة الحركة الشكلانية الروسية وهو رومان يكاسبون – خارج روسيا مكنه من الاضطلاع بدوره الرائد في حركاتتمثل الدعوة نفسها إلي تطور اللسانيات والبحث الأدبي في أوروبا أولاً ، وفي أمريكا بعد ذلك ويبدو ذلك مع كلود ليفي ستروس الأنثروبولوجي البنيوي .
إلي جانب الدور الطليعي الذي قام به ياكسبون في نقل أعمال الشكلانيين الروس وانتقالها وتطويرها برز الدور الأساسي لباريس باعتبارها عاصمة ثقافية أوروبية متميزة لقد توالت هجرات المثقفين والباحثين من أوروبا الشرقية تخصيصاً وكل منهم يحمل قضايا جديدة في البحث والتنظير ، وكل في مجال اختصاصه ووجدوا في فضاء باريس المجال الخصب لتلاقح الأفكار وتفاعلها فساهموا جميعاً في تشكيل الحركة الجديدة البنيوية ، باعتبارها رؤية جديدة للظواهر والبحث فيها ، بعيداً عن مختلف الإكراهات التي كانت تمارسها بعض النظريات وبخاصة الاشتراكية والوجودية والتحليل النفسي بالرغم من أن العديد منهم كان بصورة أو بأخري متشبعاً بها بتحفظ أو بمنظور نقدي قابل للتطوير وفي الوقت نفسه كانت الاجتهادات اللسانية تتطور وتتبلور ببطء ولكن بعمق ( حلقات براغ كوبنهاجن يالمسليف ) .
ويكفي أن نذكر من بين العلماء والباحثين الذين هاجروا من مختلف بلدان أوروبا وبخاصة الشرقية إلي باريس ليتأكد لنا ذلك نجد من بين هؤلاء ” غريماس ( ليتوانيا ) ، كريستيفا (بلغاريا) تودوروف (بلغاريا) غولدمان (رومانيا) وعندما نضيف إلي هؤلاء الفرنسيين جيرار جنيت ، ورولان بارث وكلود ليفي ستروس يظهر لنا بوضوح الدور الذي ساهمت به هذه الكفاءات في تشكيل الحقبة الجديدة في دراسة اللسان والأدب وسنجد بعضهم يساهم في ترجمة وتقديم الأعمال الأصول مثل ما فعل تودوروف مع الشكلانيين الروس وكريستيفا مع باختين وغيريماس مع أعمال بروب .
إن هذا الوضع هو الذي ساهم في تأسيس نظرايت السرد سواء من وجهة نظر جمالية أو سيميوطيقية في فرنسا بالرغم من كون الأصول الأولي لهذه النظريات نجدها تشكلت في روسيا لكن الشروط لم تساعدها علي الانتقال إلي خارجها وبسبب توافر شروط أخري في فرنسا تم الرجوع إليها واستثمارها وتطويرها ومن فرنسا بدأت هذه النظريات تنتقل إلي مختلف البلاد الأوروبية وتجد من يساهم فيها ويسعي إلي تطويرها .
لكن الانتقال لا يتحقق دائماً بالصورة نفسها فإذا وجدت البنيوية لنفسها مكاناً في فرنسا وسويسرا وبلجيكا ونسبياً في إنجلترا فإن هذا لم يتحقق بالصورة عينها في أمريكا الشمالية وخاصة في الولايات المتحدة حيث سنجد أعمال البنيويين لا تحظي بمكانة مهمة باستثناء أعمال كلود ليفي – ستروس – أما اللسانيات والنظريات السردية فقد قوبلت بالنقد والنقض في بداية الأمر بالرغم من وجود محاولات للاستفادة منها .
يعود السبب في ذلك في رأيي إلي كون الدراسات اللسانية والأدبية في أمريكا كانت قد تبلورت بصورة ما خارج السياق الذي عرفته أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ، كما أنها لم تعرف الجدالات الفكرية والسياسية التي تبلورت منذ أواخر القرن الماضي في أوروبا فمنذ الخمسينيات بدأت اللسانيات تتبلور مع الاتجاه التوليدي بزعامة نعوم تشومسكي ولقي هذا الاتجاه المناقض للبنيوية رواجاً كبيراً ولم يكن ينافسه غير الاتجاه الوظيفي وبمقتضي ذلك كان الميل أكبر نحو التفسير لا الوصف الذي كانت البنيوية تضعه في المرتبة الأولي وكان من آثار ذلك علي الدرس الأدبي الأنجلو أمريكي بصورة عامة ظهور نزعات تنمو أكثر نحو الأهتمام بالجمالي والبلاغي في علاقة وطيدة بالتفسير والتأويل .. وحتي عندما نقلت أعمال تدوروف وبارات وسواهما إلي الإنجليزية كان التعامل معها يتم من زاوية تلح علي الأبعاد الوظيفية والأيديولوجية ، وإذا كان التعامل قد تحقق في سياق آخر فما يحدده كذلك ويعطيه هذه السمة هو أن نقل البنيوية ومختلف تجلياتها تم في حقبة تالية لظهورها وبذلك غدت البنيوية في الغرب تطرح مشروعات لتجاوزها والانفتاح علي آفاق أخري .
وبهذا يمكن تفسير الاهتمام المتزايد في إنجلترا وأمريكا ببول ريكور ويريدا
( التفككية ) وتبلور ما صار يسمي بـ ” ما بعد البنيوية ” أو ما بعد الحداثة في الأبحاث الأنجلو – أمريكية سواء في مضمار اللسانيات أو الأدب أو السرد بصفة خاصة .
الأنتقـال الطبيعي وآفاق الإنفتاح :
انتقلت نظريات السرد من روسيا وتشكلت في فرنسا خلال الحقبة البنيوية ، وتطورت خارجها فيما عرف بما بعد الحداثة ، حيث صارت نظريات السرد المختلفة تتفاعل وبدينامية مع مختلف الاتجاهات والحقول والمجالات المعرفية المتعددة فما الأسباب الكامنة وراء ظهور هذه النظريات وانتقالها من مكان إلي آخر في أوروبا وأمريكا مع ما تعرفه في مسارها هذا من تطور وانفتاح ؟
نجيب عن هذا السؤال بالانطلاق من العناصر التالية :
الاشتراك الثقافي والمعرفي :
إننا في الانتقال من موسكو إلي نيويورك مروراً ببراغ وكوبنهاجن وباريس ولندن نتحرك بصورة أو بأخري في نطاق تراث حضاري مشترك وكل المساهمين فيه هنا أو هناك يتحركون في شبكة من الاتساق المشتركة علي المستويات كافة لذلك نجد أهم سمات الانتقال تتجسد في كونها طبيعية للطابع الثقافي .
– الاشتراك اللغوي :
وبالرغم من التعدد اللغوي الذي تزخر به أوروبا وامريكا نجد أن الاشتراك اللغوي حاضر بشكل قوي ولاسيما فيما يتعلق بالجانب الذي نبحث فيه وبخاصة ما ارتباط بالبعد الاصطلاحي ، حيث يعود الجميع إلي اللغتين اليونانية واللاتينية لإيجاد المصطلحات أو نحتها ويساهم هذا الاشتراك اللغوي في جعل المشتغلين بمختلف المجالات العلمية والمعرفية بالرغم من تباين لغاتهم يتكلمون لغة واحدة وموحدة وداخلها يبدعون ويختلفون .
– التوازن الثقافي :
إن الاشتراك الثقافي واللغوي يجعل الإنجازات المعرفية سريعة التدارك إذا ما تحقق تطور ما في مكان ما فيسهل التعامل معها وفي فترة وجيزة يتم الإغناء والتطوير ويعود السبب في ذلك إلي التقارب الحاصل علي المستوي العام فيما يتصل بأهم الإشكالات والقضايا المعرفية والفكرية .
إن كل هذه العوامل تساهم في جعل انتقال النظريات والمعارف يتحقق بالرغمو من بعض الصعوبات التي يمكن أن تعترض سبيلها بصورة تلقائية وطبيعية وهذا ما أدي إلي أننا والآن نتحدث عن نظريات السرد في أوروبا وأمريكا بالرغم من كون الأصول تحققت في فضاء والتشكل في آخر والتطوير في غيره ونحن في كل هذه الصيرورة أمام تصورات تختلف وتتكامل وينفتح بعضها علي بعض وكل منها يساهم بناء علي استفادته من المنجزات السابقة في دفع عجلة التطور نحو الأفضل والأكثر تطوراً . وما يتحقق والآن هنا وهناك فيما يتصل بنظريات السرد خير دليل علي ذلك .
نقل النظريات السرديات :
المشكلات العوائق :
يختلف الانتقال عن النقل وإذا كان الأول تحقق بصورة طبيعية داخل أوروبا للأسباب التي حاولنا تقديمها والتي تتجلي في اشتراك الخلفية المعرفية بوجه عام فإن النقل هو المفهوم الذي نستعمل لرصد انتقال نظريات السود إلي العالم العربي ويعود أول الأسباب إلي أن العناصر التي نلحم البينات الثقافية في الغرب مفتقدة في علاقة العالم العربي به فالاختلاف هو أهم ما يسم هذه العلاقة صحيح أننا نجد أن العلاقة مع الغرب صارت تأخذ ابعاداً أخري منذ عصر النهضة لكن اختلاف البنيات الثقافية التاريخية وعوائق التفاعل البنيوية تحول دون جعل عملية التواصل الثقافي تتحقق بالصورة الملائمة ولعل أهم ما يمكن تقديمه في هذا المضمار لإبراز أوجه التباين المعرفي نجده قابلاً للاختزال في كون النظريات التي تنتقل داخل الحقل العربي من الغرب تبقي محصورة لدي ” النخية ” ولا يتأتي لها التسرب إلي النسيج الاجتماعي العربي العام ولنأخذ هنا كبريات النظريات السياسية والفلسفية والفنية التي انتقلت إلينا من الغرب مثل الماركسية والوجودية والسوريالية لنجدها بقيت حبيسة نخبة محددة وسرعان ما يتم الانتقال منها إلي غيرها دون أن تكون التي انتقلنا منها قد حققت شيئاً مما علي صعيد البناء العام للمجتمع .
لا نريد الوقوف عند هذه النقطة لتحليل العوامل المعلقة للتفاعل مع النظريات الغربية وأسبابها الجوهرية لكن ما يمكن أن نستنتجه من خلالها أن عملية النقل ، حين يضطلع بها أشخاص فهم في الأغلبة يصطدمون ببينات اجتماعية وثقافية غير مؤهلة للتفاعل السريع مع ما يتم نقله ولا يمكن التوقف هنا فقط عدد الشروط البنيوية الموضوعية التي تستصعب قبول الطارئ والغريب إذ لابد هنا من فقط عند الشروط البنيوية الموضوعية التي نستصعب قبول الطارئ والغريب إذ لابد هنا من التوقف كذلك علي طريقة النقل لأننا سنجد لها باعتبارها شروطاً ذاتية دخلاً كبيراً في عدم تحقق المراد من النقل .
إن نقل النظريات الغربية بوجه عام ينم لأسباب كثيرة بشكل كبير من الاختزال والتبسيط وفي ما يمكن أن تقدمه الآن بصدد نظريات السرد دليل علي طرائق النقل الممارسة في نقل ما سبقها من نظريات في مختلف المجالات إلي العالم العربي وسنتين أن طريقة النقل هاته تتضافر مع العوائق الموضوعية لجعل النقل لا يساهدم في الاستفادة أو تحقيق التراكم الذي ينفتح علي التطوير والإغناء .
بواسطة admin • 01-دراسات • 0 • الوسوم : العدد الثانى, سعيد يقطين